الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } * { فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } * { قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } * { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } * { قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } * { قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً }

قال ابن كثير " لما ذكر الله تعالى - قصة زكريا - عليه السلام - وأنه أوجد منه فى حال كبره وعقم زوجته ولدا زكياً طاهراً مباركاً، وعطف بذكر قصة مريم، فى إيجاده ولدها عيسى - عليه السلام - منها من غير أب. وهى مريم ابنة عمران - من سلالة داود - عليه السلام - وكانت من بيت طاهر فى بنى إسرائيل... ونشأت نشأة عظيمة، فكانت إحدى العابدات الناسكات... وكانت فى كفالة زوج أختها زكريا - عليه السلام - ورأى لها من الكرامات الهائلة ما بهره... ". والمعنى { وَٱذْكُرْ } - أيها الرسول الكريم - { فِي ٱلْكِتَابِ } أى فى هذه السورة الكريمة، أو فى القرآن الكريم، خبر مريم وقصتها { إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } أى وقت أن تنحت عنهم واعتزلتهم فى مكان يلى الناحية الشرقية من بيت المقدس، أو من بيتها الذى كانت تسكنه. وفى التعبير بقوله - تعالى - { إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا } إشارة إلى شدة عزلتها عن أهلها إذ النبذ معناه الطرح والرمى، فكأنها ألقت بنفسها فى هذا المكان لتتخلى للعبادة والطاعة، والتقرب إلى الله - تعالى - بصالح الأعمال. قال القرطبى واختلف الناس لم انتبذت؟ فقال السدى انتبذت لتطهر من حيض أو نفاس. وقال غيره لتعبد الله وهذا حسن. وذلك أن مريم كانت وقفا على سدانة المعبد وخدمته والعبادة فيه، فتنحت من الناس لذلك، ودخلت فى المسجد إلى جانب المحراب فى شرقيه لتخلو للعبادة.. فقوله { مَكَاناً شَرْقِياً } أى مكاناً من جانب الشرق. والشرق - بسكون الراء - المكان الذى تشرق فيه الشمس. والشرق - بفتح الراء - الشمس. وإنما خص المكان بالشرق، لأنهم كانوا يعظمون جهة المشرق، حيث تطلع الأنوار... ". وقوله { فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً } تأكيد لانتباذها من أهلها، واعتزالها إياهم. أى اذكر وقت أن اعتزلت أهلها. فى مكان يلى شرق بيت المقدس، فاتخذت بينها وبينهم حجابا وساتراً للتفرغ لعبادة ربها. ثم بين - سبحانه - ما أكرمها به فى حال خلوتها فقال { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً }. أى فأرسلنا إليها روحنا وهو جبريل - عليه السلام - فتشبه لها فى صورة بشر سوى معتدل الهيئة، كامل البنية، كأحسن ما يكون الإنسان. يقال رجل سوى، إذا كان تام الخلقة عظيم الخلق، لا يعيبه فى شأن من شئونه إفراد أو تفريط. والإضافة فى قوله { رُوحَنَا } للتشريف والتكريم، وسمى جبريل - عليه السلام - روحاً لمشابهة الروح الحقيقية فى أن كلا منهما مادة الحياة للبشر. فجبريل من حيث ما يحمل من الرسالة ألإلهية تحيا به القلوب، والروح تحيا به الأجسام.

السابقالتالي
2 3