الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } * { ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً }

قال الإِمام الرازى " اعلم أن المقصود اضرب لهم مثلا آخر يدل على حقارة الدنيا، وقلة بقائها. والكلام متصل بما تقدم من قصة المشركين المتكبرين على فقراء المؤمنين.. ". والمعنى. واذكر لهم - أيها الرسول الكريم - ما يشبه هذه الحياة الدنيا فى حسنها ونضارتها، ثم فى سرعة زوال هذا الحسن والنضارة، لكى لا يركنوا إليها، ولا يجعلوها أكبر همهم، ومنتهى آمالهم. وقوله { كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ.. } بيان للمثل الذى شبه الله - تعالى - به الحياة الدنيا أى مثلها فى ازدهارها ثم فى زوال هذا الازدهار، كهيئة أو كصفة ماء أنزلناه بقدرتنا من السماء، فى الوقت الذى نريد إنزاله فيه. { فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ } والاختلاط والخلط امتزاج شيئين فأكثر بعضهما ببعض. أى كماء أنزلناه من السماء، فاختلط وامتزج بهذا الماء نبات الأرض، فارتوى منه وصار قويا بهيجا يعجب الناظرين إليه. وفى التعبير بقوله { فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ } دون قوله فاختلط بنبات الأرض إشارة إلى كثرة الماء النازل من السماء، وإلى أنه السبب الأساسى فى ظهور هذا النبات، وفى بلوغه قوته ونضارته. وقوله { فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ } بيان لما صار إليه هذا النبات من يبوسته وتفتته، بعد اخضراره وشدته وحسنه. قال القرطبى ما ملخصه { هشيما } أى متكسرا متفتتا، يعنى بانقطاع الماء عنه، فحذف ذلك إيجازا لدلالة الكلام عليه، والهشم، كسر الشئ اليابس. والهشيم من النبات اليابس المتكسر.. ورجل هشيم ضعيف البدن. و { تذروه الرياح } أى تفرقه وتنسفه.. يقال ذرت الريح الشئ تذروه ذروا، إذا طارت به وأذهبته ". أى فأصبح النبات بعد اخضراره، يابسا متفتتا، تفرقه الرياح وتنسفه وتذهب به حيث شاءت وكيف شاءت. فأنت ترى أن الآية الكريمة قد شبهت حال الدنيا فى حسنها وجمال رونقها، ثم فى سرعة زوالها وفنائها بعد ذلك، بحال النبات الذى نزل عليه الماء فاخضر واستوى على سوقه، ثم صار بعد ذلك يابسا متفتتا تذهب به الرياح حيث شاءت. والتعبير بالفاء فى قوله - سبحانه - فاختلط. فأصبح.. يزيد الأسلوب القرآنى جمالا وبلاغة، لأن فاء التعقيب هنا تدل على قصر المدة التى استمر فيها النبات نضرا جميلا، ثم صار هشيما تذروه الرياح. وهكذا الحياة تبدو للمتشبثين بها، جميلة عزيزة، ولكنها سرعان ما تفارقهم ويفارقونها، حيث ينزل بهم الموت فيجعل آمالهم تحت التراب. ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله، { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } أى وكان الله - تعالى - وما زال - على كل شئ من الأشياء التى من جملتها الإِنشاء والإِفناء كامل القدرة، لا يعجزه شئ فى الأرض ولا فى السماء.

السابقالتالي
2 3