الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } * { كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً } * { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } * { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً } * { وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً }

والمثل فى اللغة الشبيه والنظير، وهو فى عرف القرآن الكريم الكلام البليغ المشتمل على تشبيه بديع. وضرب المثل إيراده، وعبر عن إيراده بالضرب، لشدة ما يحدث عنه من التأثير فى نفس السامع. أى واضرب - أيها الرسول الكريم - مثلا للمؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه، وللكافرين الذين غرتهم الحياة الدنيا، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حى عن بينة. قال الآلوسى " والمراد بالرجلين، إما رجلان مقدران على ما قيل، وضرب المثل لا يقتضى وجودهما. وإما رجلان موجودان وهو المعول عليه. فقيل هما رجلان من بنى إسرائيل أحدهما كافر.. والآخر مؤمن. ثم قال والمراد ضربهما مثلا للفريقين المؤمنين والكافرين، لا من حيث أحوالهما المستفادة مما ذكر آنفا، بل من أن للمؤمنين فى الآخرة كذا، وللكافرين فيها كذا، من حيث عصيان الكفرة مع تقلبهم فى نعم الله، وطاعة المؤمنين مع مكابدتهم مشاق الفقر ". أى واضرب لهم مثلا من حيثية العصيان مع النعمة، والطاعة مع الفقر، حال رجلين { جعلنا لأحدهما } وهو الكافر { جنتين } أى بستانين، ولم يعين - سبحانه - مكانهما، لأنه لم يتعلق بهذا التعيين غرض. ثم بين ما اشتملت عليه هاتان الجنتان من خيرات فقال { من أعناب } جمع عِنَب، والعنبة الحبة منه. والمراد من كروم متنوعة. وقوله { وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } بيان لما أضيف إلى الجنتين من مناظر تزيدهما بهجة وفائدة. والحف بالشئ الإِحاطة به. يقال فلان حفه القوم، أى أحاطوا به، ومنه قوله - تعالى -وَتَرَى ٱلْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ... } أى جعلنا لأحد الرجلين، وهو الكافر منهما جنتين من أعناب، وأحطناهما بنخل ليكون كالحماية النافعة لهما، وجعلنا فى وسطهما زرعا وبذلك تكون الجنتان جامعتين للأقوات والفواكه، مشتملتين على ما من شأنه أن يشرح الصدر، ويفيد الناس. ثم ذكر - سبحانه - ما يزيد من جودة الجنتين، ومن غزارة خيرهما فقال { كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً } وكلتا اسم مفرد اللفظ مثنى المعنى عند البصريين، وهو المذهب المشهور، ومثنى لفظا ومعنى عند غيرهم. أى أن كل واحدة من الجنتين { آتت أكلها } أى أعطت ثمارها التى يأكلها الناس من العنب والتمر وغيرهما من صنوف الزرع { وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً } أى ولم تنقص من هذا المأكول شيئا فى سائر السنين، بل كان أكل كل واحدة منهما وافيا كثيرا فى كل سنة، على خلاف ما جرت به عادة البساتين، فإنها فى الغالب تكثر ثمارها فى أحد الأعوام وتقل فى عام آخر. وفى التعبير بكلمة { تظلم } بمعنى تنقص وتمنع، مقابلة بديعة لحال صاحبهما الذى ظلم نفسه بجحوده لنعم الله - تعالى - واستكباره فى الأرض.

السابقالتالي
2 3