الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } * { وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } * { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً }

وبعد أن ذكر - سبحانه - الأساس فى قبول الأعمال، وهو إخلاص العبادة له - عزَّ وجل - وحده، أتبع ذلك بتأكيد هذا الأساس بما هو من شرائط الإِيمان الحق وشعائره فقال - تعالى - { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً.. }. قال القرطبى ما ملخصه { قضى } أى أمر وألزم وأوجب... والقضاء يستعمل فى اللغة على وجوه، فالقضاء بمعنى الأمر، كما فى هذه الآية والقضاء بمعنى الخلق كقولهفَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } يعنى خلقهن، والقضاء بمعنى الحكم، كقوله - تعالى -فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ } يعنى احكم ما أنت تحكم. والقضاء بمعنى الفراغ من الشئ، كقولهقُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } أى فرغ منه. والقضاء بمعنى الارادة. كقوله - تعالى -إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.. } والمعنى لقد نهى ربك عن الاشراك به نهيا قاطعا، وأمر أمرا محكما لا يحتمل النسخ، بأن لا تعبدوا أحدا سواه، إذ هو الخالق لكل شئ، والقادر على كل شئ، وغيره مخلوق وعاجز عن فعل شئ إلا بإذنه - سبحانه -. فالجملة الكريمة أمر لازم لإِخلاص العبادة لله، بعد النهى عن الإِشراك به فى قوله - تعالى -لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ.. } وقد جاء هذا الأمر بلفظ { قضى } زيادة فى التأكيد، لأن هذا اللفظ هنا يفيد الوجوب القطعى الذى لا رجعة فيه، كما أن اشتمال الجملة الكريمة على النفى والاستثناء - وهما أعلا مراتب القصر - يزيد هذا الأمر تأكيدا وتوثيقا. ثم أتبع - سبحانه - الأمر بوحدانيته، بالأمر بالإِحسان إلى الوالدين فقال { وبالوالدين إحسانا }. أى وقضى - أيضا - بأن تحسنوا - أيها المخاطبون - إلى الوالدين إحسانا كاملا لا يشوبه سوء أو مكروه. وقد جاء الأمر بالاحسان إلى الوالدين عقب الأمر بوجوب إخلاص العبادة لله، فى آيات كثيرة. منها قوله - تعالى -قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً.. } وقوله - تعالى -وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً.. } ولعل السر فى ذلك هو الإِشعار للمخاطبين بأهمية هذا الأمر المقتضى لوجوب الإِحسان إلى الوالدين، حيث إنهما هما السبب المباشر لوجود الإِنسان فى هذه الحياة، وهما اللذان لقيا ما لقيا من متاعب من أجل راحة أولادهما، فيجب أن يقابل ما فعلاه بالشكر والاعتراف بالجميل. قال بعض العلماء وقد جاءت هذه الوصية بأسلوب الأمر بالواجب المطلوب، وهو الإِحسان إلى الوالدين، ولم تذكر بأسلوب النهى سموا بالإِنسان عن أن تظن به الإِساءة إلى الوالدين، وكأن الاساءة إليهما، ليس من شأنها أن تقع منه حتى يحتاج إلى النهى عنها.

السابقالتالي
2 3 4 5 6