الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } * { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً } * { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً } * { وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } * { كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً } * { ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } * { لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً }

قال أبو حيان - رحمه الله - لما ذكر - تعالى - فى الآية السابقة، أنه لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا، بين بعد ذلك علة إهلاكهم، وهى مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، والتمادى على الفساد - فقال، سبحانه - { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا.. }. وقوله - سبحانه - { أمرنا } من الأمر الذى هو ضد النهى، والمأمور به هو الإِيمان والعمل الصالح، والشكر لله رب العالمين، وحذف لظهوره والعلم به. وقوله { مترفيها } جمع مترف، وهو المتنعم الذى لا يمنع من تنعمه، بل يترك يفعل ما يشاء. يقال ترف فلان - كفرح - أى تنعم، وفلان أترفته النعمة، أى أطغته وأبطرته لأنه لم يستعملها فى وجوهها المشروعة. والمراد بهم، أصحاب الجاه والغنى والسلطان، الذين أحاطت بهم النعم من كل جانب، ولكنهم استعملوها فى الفسوق والعصيان، لا فى الخير والإِحسان. والمعنى وإذا قرب وقت إرادتنا إهلاك أهل قرية، أمرنا مترفيها، وأهل الغنى والسلطان فيها بالإِيمان والعمل الصالح، والمداومة على طاعتنا وشكرنا، فلم يستجيبوا لأمرنا، بل فسقوا فيها، وعاثوا فى الأرض فسادا. وهذا الأمر إنما هو على لسان الرسول المبعوث إلى أهل تلك القرية، وعلى ألسنة المصلحين المتبعين لهذا الرسول والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. وقال - سبحانه - { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً... } مع أن الهلاك لأهلها، للإِشارة إلى أن هذا الهلاك لن يصيب أهلها فقط، بل سيصيبهم ويصيب معهم مساكنهم وأموالهم وكل ما احتوته تلك القرية، بحيث تصير هى وسكانها أثرا بعد عين. وخص مترفيها بالذكر مع أن الأمر بالطاعة للجميع، لأن هؤلاء المترفين هم الأئمة والقادة، فإذا ما استجابوا للأمر استجاب غيرهم تبعا لهم فى معظم الأحيان، ولأنهم فى أعم الأحوال هم الأسرع إلى ارتكاب ما نهى الله عنه، وإلى الانغماس فى المتع والشهوات. والحكمة من هذا الأمر، هو الإِعذار والإِنذار، والتخويف والوعيد. كما قال - تعالى -رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ.. } وهذا التفسير للآية الكريمة، سار عليه جمهور المفسرين. ولصاحب الكشاف رأى يخالف ذلك، فهو يرى أن الأمر فى الآية الكريمة مجاز عن إمدادهم بالنعم الكثيرة التى أبطرتهم. قال - رحمه الله - قوله - تعالى - { وإذا أردنا } وإذا دنا وقت إهلاك قوم، ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل أمرناهم { ففسقوا } أى أمرناهم بالفسق ففعلوا. والأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا، وهذا لا يكون، فبقى أن يكون مجازا، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صبا، فجعلوها ذريعة إلى المعاصى واتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير، ويتمكنوا من الإِحسان والبر، كما خلقهم أصحاء أقوياء، وأقدرهم على الخير والشر، وطلب منهم إيثار الطاعة، على المعصية، فآثروا الفسوق، فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمرهم.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7