الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } * { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

وقوله - سبحانه - { وأوحى } من الوحى، وهو هنا بمعنى الإِلهام، وهو - كما يقول القرطبى - ما يخلقه الله - تعالى - فى القلب ابتداء من غير سبب ظاهر. ومنه قوله - تعالى -وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } ومن ذلك إلهام البهائم لفعل ما ينفعها، وترك ما يضرها، وتدبير معاشها... وقال صاحب الكشاف والإِيحاء إلى النحل إلهامها والقذف فى قلوبها على وجه هو أعلم به، لا سبيل لأحد إلى الوقوف عليه، وإلا فتأنقها فى صنعتها ولطفها فى تدبير أمرها، وإصابتها فيما يصلحها دلائل شاهدة على أن الله - تعالى - أودعها علما بذلك وفطنها، كما أودع أولى العقول عقولهم... والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ويشمل كل من يصلح للخطاب من الأمة الإِسلامية. والنحل اسم جنس يفرق بينه وبين واحده بالتاء، ويطلق على الذكر والأنثى، وسمى بذلك لأن الله - تعالى - نحله أى منحه العسل الذى يخرج منه. وقوله - سبحانه - { أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } بيان لما ألهمه الله النحل من أوامر. ولما كلفها به من أعمال. و " أن " مفسرة لأن الإِيحاء فيه معنى القول دون حروفه وما بعدها لا محل له من الإِعراب، ويجوز بأن تكون مصدرية فيكون ما بعدها فى محل نصب على تقدير الجار. أى بأن اتخذى. والمعنى وألهم ربك النحل وأرشدها وهداها إلى أن تتخذ من فجوات الجبال بيوتا تسكن فيها، وكذلك من تجاويف الأشجار ومما يرفعه الناس ويعرشونه من السقوف وغيرها. يقال عرش الشئ يعرشه - بكسر الراء وضمها - إذا رفعه عن الأرض، ومنه العريش الذى صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر لمشاهدة سير المعركة. قال صاحب الكشاف فإن قلت ما معنى " من " فى قوله { أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ }؟ وهلا قيل فى الجبال وفى الشجر؟. قلت أريد معنى البعضية، وأن لا تبنى بيوتها فى كل جبل، وكل شجر، وكل ما يعرش، ولا فى كل مكان منها. وقد علق الشيخ ابن المنير على هذا الكلام بقوله " ويتزين هذا المعنى الذى نبه عليه الزمخشرى فى تبعيض " من " المتعلقة باتخاذ البيوت بإطلاق الأكل، كأنه - تعالى - وكل الأكل إلى شهوتها واختيارها فلم يحجر عليها فيه، وإن حجر عليها فى البيوت، وأمرت باتخاذها فى بعض المواضع دون بعض لأن مصلحة الأكل على الإِطلاق باستمرار مشتهاها منه، وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها فى كل موضع. ولهذا المعنى دخلت ثم فى قوله { ثم كلى... } لتفاوت الأمر بين الحجر عليها فى اتخاذ البيوت، والإِطلاق لها فى تناول الثمرات، كما تقول راع الحلال فيما تأكله ثم كل أى شئ شئت.

السابقالتالي
2 3 4