الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } * { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } * { وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }

والمراد بالسماء فى قوله - تعالى - { وَٱللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً } جهة العلو أو السحاب المنتشر فى طبقات الجو العليا والذى تنزل منه الأمطار. والمراد بإحياء الأرض تحرك القوى النامية فيها، وإظهار ما أودعه الله - تعالى - فيها من نبات وأزهار، وثمرات، وغير ذلك مما تنبته الأرض. والمراد بموتها خلوها من ذلك، بسبب استيلاء القحط والجدب عليها. قال - تعالى -وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } أى وكما أنزل الله - تعالى - كتابه ليكون هداية ورحمة لقوم يؤمنون، أنزل - سبحانه - أيضا الماء من السماء على الأرض، فتحولت بسبب نزول هذا الماء المبارك الكثير عليها، من أرض جدباء خامدة، إلى أرض خضراء رابية. ثم حرض - سبحانه - عباده على التدبر والشكر فقال - تعالى - { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ }. أى إن فى ذلك الذى فعلناه بقدرتنا وحدها، من إنزل الماء من السماء، وإحياء الأرض به من بعد موتها، لآية عظيمة، وعبرة جليلة، ودلالة واضحة تدل على وحدانيتنا وقدرتنا وحكمتنا، { لقوم يسمعون } ما يتلى عليهم من كلام الله - تعالى - سماع تدبر واعتبار، فيعملون بما اشتمل عليه من توجيهات حكيمة وإرشادات سديدة. فالمراد بالسمع سمع القلوب والعقول، لا سمع الآذان فقط، إذ سمع الآذان بدون وعى واستجابة للحق، لا قيمة له، ولا فائدة ترجى من ورائه. ثم أرشد - سبحانه - إلى مظهر آخر من مظاهر وحدانيته، وعظيم قدرته وعجيب صنعه، وسعة رحمته، حيث خلق للناس الأنعام، وسقاهم من ألبانها، فقال - تعالى - { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً... }. والأنعام تطلق على الإِبل والبقر والغنم من الحيوان، ويدخل فى الغنم المعز. والعبرة مصدر بمعنى العبور، أى التجاوز من محل إلى آخر، والمراد بها هنا العظة والاعتبار والانتقال من الجهل إلى العلم، ومن الغفلة إلى اليقظة. أى وإن لكم - أيها الناس - فى خلق الأنعام، وفيما يخرج منها من ألبان لعبرة عظيمة، وعظة بليغة، ومنفعة جليلة توجب عليكم إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده، ومداومة الشكر له على نعمه. فالتنكير فى قوله { لعبرة } للتفخيم والتهويل. وقوله - تعالى - { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } استئناف بيانى، كأنه قيل وما وجه العبرة فى الأنعام؟ فكان الجواب نسقيكم مما فى بطونه. قال الآلوسى " والضمير فى { بطونه } يعود للأنعام، وهو اسم جمع، واسم الجمع يجوز تذكيره وإفراده باعتبار معناه... ". وقوله - سبحانه - { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } بيان لموطن العبرة ومحل النعمة، ومظهر الدلالة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ورحمته.

السابقالتالي
2 3 4