الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَعَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } * { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوۤاْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }

قال ابن كثير - رحمه الله - لما ذكر - تعالى - أنه إنما حرم علينا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، وإنما أرخص فيه عند الضرورة وفى ذلك توسعة لهذه الأمة التى يريد الله بها اليسر ولا يريد بها العسر -، ذكر - سبحانه - بعد ذلك ما كان حرمه على اليهود فى شريعتهم قبل أن ينسخها، وما كانوا فيه من الآصار والتضييق والأغلال والحرج، فقال { وَعَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ.. }. أى فى سورة الأنعام فى قولهوَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ وَٱلْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ ٱلْحَوَايَآ أَوْ مَا ٱخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } والمعنى وعلى اليهود بصفة خاصة، دون غيرهم من الأمم، حرمنا بعض الطيبات التى سبق أن بيناها لك فى هذا القرآن الكريم، وما كان تحريمنا إياها عليهم إلا بسبب بغيهم وظلمهم. وفى الآية الكريمة إبطال لمزاعمهم، حيث كانوا يقولون لسنا أول من حرمت عليه هذه الطيبات، وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم وغيرهما ممن جاء بعدهما. وقوله { من قبل } متعلق بحرمنا، أو بقصصنا. وبذلك يتبين أن ما حرمه الله - تعالى - على الأمة الإِسلامية، كالميتة والدم ولحم الخنزير.. كان من باب الرحمة بها، والحرص على مصلحتها.. أما ما حرمه - سبحانه - على اليهود، فقد كان بسبب بغيهم وظلمهم. وقوله - تعالى - { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بيان لمظهر من مظاهر عدل الله - تعالى - فى معاملته لعباده. أى وما ظلمنا هؤلاء اليهود بتحريم بعض الطيبات عليهم، ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم، حيث تركوها تسير فى طريق الشيطان، ولم يوقفوها عند حدود الله - تعالى -، فاستحقوا بسبب ذلك ما استحقوا من عقوبات. وصدق الله إذ يقولإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئاً وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } وقوله - سبحانه - { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ.. } بيان لسعة رحمته - سبحانه - بعباده، ورأفته بهم. والمراد بالجهالة الجهل والسفه اللذان يحملان صاحبهما على ارتكاب ما لا يليق بالعقلاء، وليس المراد بها عدم العلم. قال مجاهد كل من عصى الله - تعالى - عمدا أو خطأ فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته. وقال ابن عطيه الجهالة هنا بمعنى تعدى الطور، وركوب الرأس لا ضد العلم. ومنه ما جاء فى الخبر " اللهم إنى أعوذ بك من أن أجهل، أو يجهل على ". ومنه قول الشاعر
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلين   

السابقالتالي
2