الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ } * { قَالُواْ يَٰأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } * { وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ }

فقوله { وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ }. والعشاء وقت غيبوبة الشفق الباقى من بقايا شعاع الشمس، وبدء حلول الظلام والمراد بالبكاء هنا البكاء المصطنع للتمويه والخداع لأبيهم، حتى يقنعوه - فى زعمهم - أنهم لم يقصروا فى حق أخيهم. أى وجاءوا أباهم بعد ان أقبل الليل بظلامه يتباكون، متظاهرين بالحزن والأسى لما حدث ليوسف، وفى الأمثال " دموع الفاجر بيديه ". { قَالُواْ يَٰأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } أى نتسابق عن طريق الرمى بالسهام، أو على الخيل، أو على الأقدام. يقال فلان وفلان استبقا أى تسابقا حتى ينظر أيهما يسبق الآخر. { وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا } أى عند الأشياء التى نتمتع بها وننتفع فى رحلتنا، كالثياب والأطعمة، وما يشبه ذلك. { فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ } فى تلك الفترة التى تركناه فيها عند متاعنا. والمراد قتله الذئب، ثم أكله دون أن يبقى منه شيئا ندفنه. { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } أى وما أنت بمصدق لنا فيما أخبرناك به من أن يوسف قد أكله الذئب، حتى ولو كنا صادقين فى ذلك، لسوء ظنك بنا، وشدة محبتك له. وهذه الجملة الكريمة توحى بكذبهم على أبيهم، وبمخادعتهم له، ويكاد المريب أن يقول خذونى - كما يقولون -. ولكنهم لم يكتفوا بهذا التباكى وبهذا القول، بل أضافوا إلى ذلك تمويها آخر حكاه القرآن فى قوله { وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ... } أى بدم ذى كذب، فهو مصدر بتقدير مضافه، أو وصف الدم بالمصدر مبالغة، حتى لكأنه الكذب بعينه، والمصدر هنا بمعنى المفعول، كالخلق بمعنى المخلوق، أى بدم مكذوب. والمعنى وبعد أن ألقوا بيوسف فى الجب، واحتفظوا بقميصه معهم، ووضعوا على هذا القميص دما مصطنعا ليس من جسم يوسف، وإنما من جسم شئ آخر قد يكون ظبيا وقد يكون خلافه. وقال - سبحانه - { عَلَىٰ قَمِيصِهِ } للإِشعار بأنه دم موضوع على ظاهر القميص وضعا متكلفا مصطنعا، ولو كان من أثر افتراس الذئب لصاحبه، لظهر التمزق والتخريق فى القميص، ولتغلغل الدم فى قطعة منه. ولقد أدرك يعقوب - عليه السلام - من قسمات وجوههم، ومن دلائل حالهم، ومن نداء قلبه المفجوع أن يوسف لم يأكله الذئب، وأن هؤلاء المتباكين هم الذين دبروا له مكيدة ما، وأنهم قد اصطنعوا هذه الحيلة المكشوفة مخادعة له، ولذا جابههم بقوله { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً... }. والتسويل التسهيل والتزيين. يقال سولت لفلان نفسه هذا الفعل أى زينته وحسنته له، وصورته له فى صورة الشئ الحسن مع أنه قبيح. أى قال يعقوب لأبنائه بأسى ولوعة بعد أن فعلوا ما فعلوا وقالوا ما قالوا قال لهم ليس الأمر كما زعمتم من أن يوسف قد أكله الذئب، وإنما الحق أن نفوسكم الحاقدة عليه هى التى زينت لكم أن تفعلوا معه فعلا سيئا قبيحا، ستكشف الأيام عنه بإذن ربى ومشيئته.

السابقالتالي
2