الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيۤ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } * { وَيٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } * { وَيٰقَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } * { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِيۤ أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيْراً ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِيۤ أَنْفُسِهِمْ إِنِّيۤ إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ }

{ قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيۤ... } أى قال نوح - عليه السلام - فى رده على الملأ الذين كفروا من قومه { قَالَ يٰقَوْمِ } أى يا أهلى وعشيرتى الذين يسرنى ما يسرهم ويؤلمنى ما يؤلمهم. { أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيۤ } أى اخبرونى إن كنت على بصيرة من أمرى، وحجة واضحة من ربى، بها يتبين الحق من الباطل. { وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } أى ومنحنى بفضله وإحسانه النبوة التى هى طريق الرحمة لمن آمن بها، واتبع من اختاره الله لها. فالمراد بالرحمة هنا النبوة { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } أى فأخفيت عليكم هذه الرحمة، وغاب عنكم الانتفاع بهداياتها، لأنكم ممن استحب العمى على الهدى. يقال عُمِّى على فلان الأمر أى أخفى عليه حتى صار بالنسبة إليه كالأعمى قال صاحب المنار قرأ الجمهور فعميت - بالتخفيف - كخفيت وزنا ومعنى. قال - تعالى -فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَنبَـآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ } وقرأ حمزة والكسائى وحفص بالتشديد والبناء للمفعول { فَعُمِّيَتْ } أى فحجبها عنكم جهلكم وغروركم.. والتعبير بعميت مخففة ومشددة أبلغ من التعبير بخفيت وأخفيت، لأنه مأخوذ من العمى المقتضى لأشد أنواع الخفاء. والاستفهام فى قوله { أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } للإِنكار والنفى. أى إذا كانت الهداية إلى الخير التى جئتكم بها قد خفيت عليكم مع وضوحها وجلائها، فهل استطيع أنا وأتباعى أن نجبركم إجبارا، ونقسركم قسرا على الإِيمان بى، وعلى التصديق بنبوتى، والحال أنكم كارهون لها نافرون منها. كلا إننا لا نستطيع ذلك لأن الإِيمان الصادق يكون عن اقتناع واختيار لا عن إكراه وإجبار. قال صاحب الظلال ما ملخصه واللفظ فى القرآن قد يرسم بجرسه صورة كاملة للتناسق الفنى بين الألفاظ، ومن أمثله ذلك قوله - تعالى - فى قصة نوح مع قومه { أَنُلْزِمُكُمُوهَا... } فأنت تحس أن كلمة انلزمكموها تصور جو الإِكراه، بإدماج كل هذه الضمائر فى النطق، وشد بعضها إلى بعض كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون، ويشدون إليه وهم نافرون، وهكذا يبدو لون من التناسق فى التعبير أعلى من البلاغة الظاهرية، وأرفع من الفصاحة اللفظية. ثم وجه نوح - عليه السلام - نداء ثانيا إلى قومه زيادة فى التلطف معهم، وطمعا فى إثارة وجدانهم نحو الحق فقال { وَيٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً }. أى لا أطلب منكم شيئا من المال فى مقابل تبليغ ما أمرنى ربى بتبليغه إليكم لأن طلبى هذا قد يجعلكم تتوهمون أنى محب للمال. { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ } - تعالى وحده، فهو الذى يثيبنى على دعوتى إلى عبادتكم له، وفى هذه الجملة إشارة إلى أنه لا يسأل الله - تعالى - مالا، وإنما يسأله ثوابا، إذ ثواب الله يسمى أجرا، لأنه جزاء على العمل الصالح.

السابقالتالي
2 3 4