الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِيۤ آيَاتِنَا قُلِ ٱللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } * { هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ } * { فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }

وقوله { أَذَقْنَا } من الذوق وحقيقته إدراك الطعام ونحوه بالذوق باللسان واستعمل هنا على سبيل المجاز فى إدراك ما يسر وما يؤلم من المعنويات كالرحمة والضراء. قال الآلوسى " والمراد بالناس كفار مكة على ما قيل، لما روى من أن الله - تعالى - سلط عليهم القحط سبع سنين، حتى كادوا يهلكون فطلبوا منه أن يدعو لهم بالخصب، ووعدوه بالإِيمان، فلما دعا لهم ورحمهم الله - تعالى - بالمطر، طفقوا يطعنون فى آياته - تعالى - ويعاندون نبيه - صلى الله عليه وسلم -. وقيل إن الناس عام لجميع الكفار ". والضراء من الضر، وهو ما يصيب الإِنسان فى نفسه من أمراض وأسقام. والمكر هو التدبير الخفى الذى يفضى بالممكور به إلى ما لا يتوقعه من مضرة وكيد. والمعنى وإذا أذقنا الناس منا رحمة كأن منحناهم الصحة والسعادة والغنى من بعد ضراء أصابتهم فى أنفسهم أو فيمن يحبون، ما كان منهم إلا المبادرة إلى الطعن فى آياتنا الدالة على قدرتنا، والاستهزاء بها والتهوين من شأنها. وأسند إذاقته الرحمة إلى ضمير الجلالة، وأسند المساس إلى الضراء، رعاية للأدب مع الله - تعالى -، لأنه وإن كان كل شىء من عنده، إلا أن الأدب معه - سبحانه - يقتضى إسناد الخير إليه والشر إلى غيره كما فى قوله - تعالى -وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } وفى الحديث " اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك ". وإذا الأولى شرطية، والثانية فجائية والجملة بعدها جواب الشرط. وجاء التعبير بإذا الفجائية فى الجواب، للإِشارة إلى توغلهم فى الجحود والكنود فهم بمجرد أن حلت النعمة بهم محل النقمة، عادوا إلى عنادهم وجهلهم، ونسبوا كل خير إلى غيره - تعالى -. قال الرازى " واعلم أنه - تعالى - ذكر هذا المعنى بعينه فيما تقدم من هذه السورة وفى قوله - تعالى -وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ... } إلا أنه - تعالى - زاد فى هذه الآية التى نحن بصدد تفسيرها دقيقة أخرى ما ذكرها فى تلك الآية، وتلك الدقيقة هى أنهم يمكرون عند وجدان الرحمة. وفى الآية المتقدمة ما كانت هذه الدقيقة مذكورة فثبت بما ذكرنا أن عادة هؤلاء الأقوام اللجاج والعناد والمكر. وقوله { قُلِ ٱللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } أمر من الله - تعالى - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يرد عليهم بما يبطل مكرهم. أى قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين الذين يسرعون بالمكر فى مقام الشكر، إن الله - تعالى - أسرع مكراً منكم لأنه لا يخفى عليه بشىء من مكركم، ولأن الحفظة من الملائكة يسجلون عليكم أقوالكم وأفعالكم، التى ستحاسبون عليها فى يوم القيامة حساباً عسيراً، وسترون أن مكركم السىء لا يحيق إلا بكم.

السابقالتالي
2 3 4 5