الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } * { وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }

في هاتين الآيتين مبحثان أحدهما في معنى من لعمومه، والآخر في صيغة يعمل.

أما الأول فهو مطروق في جميع كتب التفسير على حد قولهم: من للعموم المسلم والكافر، مع أن الكافر لا يرى من عمل الخير شيئاً، لقوله تعالى:وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [الفرقان: 23]، وفي حق المسلم، قد لا يرى كل ما عمل من شر، لقوله تعالى:إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء: 48].

وقد بحث الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذه المسألة بتوسع في دفع إيهام الاضطراب بما يغني عن إيراده.

أما المبحث الثاني فلم أر من تناوله بالبحث، وهو في صيغة يعمل، لأنها صيغة مضارع، وهي للحال والاستقبال.

والمقام في هذا السياقيَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ٱلنَّاسُ أَشْتَاتاً } [الزلزلة: 6]، وهو يوم البعث، وليس هناك مجال للعمل، وكان مقتضى السياق أن يقال: فمن عمل مثقال ذرة خيراً يره. ولكن الصيغة هنا صيغة مضارع، والمقام ليس مقام عمل، ولكن في السياق ما يدل على أن المراد بعمل مثقال ذرة أي من الصنفين ما كان من قبل ذلك، لقوله تعالىيَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ٱلنَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ } [الزلزلة: 6]، فهم إنما يروا في ذلك اليوم أعمالهم التي عملوها من قبل، فتكون صيغة المضارع هنا من باب الالتفات، حيث كان السياق أولاً من أول السورة في معرض الإخبار عن المستقبل: إذا زلزلت الأرض زلزالها، وإذا أخرجت الأرض أثقالها، وإذا قال الإنسان ما لها. في ذلك اليوم الآتي تحدث أخبارها، وفي ذلك اليوم يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم التي عملوها من قبل كما في قوله:يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } [النبأ: 40]، وقوله:وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً } [الكهف: 49].

ثم جاء الالتفات بمخاطبتهم على سبيل التنبيه والتحذير، فمن يعمل الآن في الدنيا مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل الآن في الدنيا مثقال ذرة شراً يره في الآخرة، ومثال الذرة: قيل: هي النملة الصغيرة، لقول الشاعر:
من القاصرات الطرف لو دب محول   من الذر فوق الإتب منها لأثرا
والإتب: قال في القاموس: الإتب بالكسر، والمئتبة كمكنسة برد يشق، فتلبسه المرأة من غير جيب ولا كمين، وقيل: هي الهباء التي ترى في أشعة الشمس، وكلاهما مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وسيأتي زيادة إيضاح لكيفية الوزن في سورة القارعة إن شاء الله.

ولعل ذكر الذرة هنا على سبيل المثال لمعرفتهم لصغرها، لأنه تعالى عمم العمل في قوله:يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } [النبأ: 40]، أيا كان هو مثقال ذرة أو مثاقيل القناطير، وقد جاء النص صريحاً بذلك في قوله تعالى:وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }

السابقالتالي
2