الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } * { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلَٰئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِيمَٰناً وَلاَ يَرْتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ }

في قوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاًَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } حكى القرطبي في معنى الفتنة هنا معنيين:

الأول: التحريق كما في قوله:إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } [البروج: 10].

والثاني: الابتلاء. وقد تقدم للشيخ مراراً في كتابه ودروسه، أن أصل الفتنة الاختبار.

تقول: اختبرت الذهب إذا أدخلته النار لتعرف زيفه من خالصه.

ولكن السياق يدل على الثاني، وهو الاختبار والابتلاء لقوله تعالى: { وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً }.

وقوله: { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } أي عددهم، فلو كان المراد التحريق والوعيد بالنار، لما كان مجال لتساؤل الذين في قلوبهم مرض والكافرين عن هذا المثل ولما كان يصلح أن يجعل مثلاً، ولما كان الحديث عن عدد جنود: ربك بحال، وفي هذه الآية الكريمة عدة مسائل هامة.

الأولى: جعل المثل المذكور، أي جعل العدد المعين فتنة لتوجه السؤال أو مقابلته بالإذعان، فقد تساءل المستبعدون واستسلم وأذعن المؤمنون، كما ذكر تعالى في صريح قوله:إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً } [البقرة: 26].

ثم بين تعالى الغرض من ذلك طبق ما جاء في الآية هنايُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِينَ } [البقرة: 26]، فهذه الآية من سورة البقرة مبينة تماماً لآية المدثر.

المسألة الثانية: قوله تعالى: { لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } أن هذا مطابق لما عندهم في التوراة، وهذا مما يشهد لقومهم على صدق ما يأتي به النَّبي صلى الله عليه وسلم، وما ادعاه لإيمانهم وتصديقهم.

وقد ذكر القرطبي حديثاً في ذلك واستغربه، ولكن النص يشهد لذلك.

المسألة الثالثة: أن المؤمن كلما جاءه أمر عن الله وصدقه، ولو لم يعلم حقيقته اكتفاء بأنه من الله، ازداد بهذا التصديق إيماناً وهي مسألة ازدياد الإيمان بالطاعة والتصديق.

المسألة الرابعة: بيان أن الواجب على المؤمن المبادرة بالتصديق والانقياد، ولو لم يعلم الحكمة أو السر أو الغرض بناء على أن الخبر من الله تعالى، وهو أعلم بما رواه.

وفي هذه المسألة مثار نقاش حكمة التشريع، وهذا أمر واسع، ولكن المهم عندنا هنا ونحن في عصر الماديات وتقدم المخترعات وظهور كثير من علامات الاستفهام عند كثير من آيات الأحكام، فإنا نود أن نقول:

إن كل ما صح عن الشارع الحكيم من كتاب أو سنة وجب التسليم والانقياد إليه، علمنا الحكمة أو لم نعلم. لأن علمنا قاصر وفهمنا محدود والعليم الحكيم الرَّؤوف الرَّحيم سبحانه لا يكلِّف عباده إلا بما فيه الحكمة.

ومجمل القول إن الأحكام بالنسبة لحكمتها قد تكون محصورة في أقسام ثلاثة:

القسم الأول: حكم تظهر حكمته بنص كما في وجوب الصلاة، جاء إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر، وهذه حكمة جليلة والزكاة جاء عنها أنها تطهرهم وتزكيهم.

السابقالتالي
2