الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }

قد قدمنا مراراً أن التسبيح هو تنزيه الله عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، وأصله في اللغة الإبعاد عن السوء، من قولهم سبح. إذا صار بعيداً، ومنه قيل للفرس: سابح، لأنه إذا جرى يبعد بسرعة، ومن ذلك قول عنترة في معلقته:
إذ لا أزال على رحالة سابح   نهر تعاوره الكماة مكلم
وقول عباس بن مرداس السلمي:
لا يغرسون فسيل النخل حولهم   ولا تخاور في مشتاهم البقر
إلا سوابح كالعقبان مقربة   في دارة حولها الأخطار والفكر
وهذا الفعل الذي هو سبح قد يتعدى بنفسه بدون اللام كقوله تعالى:وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [الفتح: 9]، وقوله تعالىوَمِنَ ٱللَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } [الإنسان: 26]، وقد يتعدى باللام كقوله هنا: { سَبَّحَ للَّهِ } ، وعلى هذا فسبحه وسبح له لغتان كنصحه ونصح له. وشكره وشكر له، وذكر بعضهم في الآية وجهاً آخر، وهو أن المعنى: { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْض } ، أي أحدث التسبيح لأجل الله أي ابتغاء وجهه تعالى. ذكره الزمخشري وأبو حيان، وقيل: { سَبَّحَ للَّهِ } أي صلى له.

وقد قدمنا أن التسبيح يطلق على الصلاة، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أهل السماوات والأرض يسبحون لله، أي ينزهونه عما لا يليق، بينه الله جل وعلا في آيات أخر من كتابه كقوله تعالى في سورة الحشرسَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [الحشر: 1] وقوله في الصفسَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [الصف: 1] أيضاً وقوله في الجمعةيُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ٱلْمَلِكِ ٱلْقُدُّوسِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } [الجمعة: 2]، وقوله في التغابنيُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [التغابن: 1].

وزاد في سورة بني إسرائيل أن السموات السبع والأرض يسبحن لله مع ما فيهما من الخلق وأن تسبيح السموات ونحوها من الجمادات يعلمه الله ونحن لا نفقهه أي لا نفهمه، وذلك في قوله تعالى:تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَاوَاتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء: 44] وهذه الآية الكريمة تدل دلالة واضحة على أن تسبيح الجمادات المذكور فيها وفي قوله تعالى:وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ } [الأنبياء: 79] ونحو ذلك تسبيح حقيقي يعلمه الله ونحن لا نعلمه.

والآية الكريمة فيها الرد الصريح، على زعم من أهل العلم، أن تسبيح الجمادات هو دلالة إيجادها على قدرة خالقها، لأن دلالة الكائنات على عظمة خالقها، يفهمها كل العقلاء، كماصرح الله تعالى بذلك في قولهإِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ } [البقرة: 164] - إلى قوله -

السابقالتالي
2