الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }

قرأ هذا الحرف ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: (فسوف يعلمون) بياء الغيبة، وقرأ نافع وابن عامر (فسوف تعلمون) بتاء الخطاب.

وهذه الآية الكريمة تضمنت، ثلاثة أمور:

الأول: أمره صلى الله عليه وسلم بالصفح عن الكفار.

والثاني: أن يقول لهم سلام.

والثالث: تهديد الكفار، بأنهم سيعلمون حقيقة الأمر وصحة ما يوعد به الكافر من عذاب النار.

وهذه الأمور الثلاثة جاءت موضحة في غير هذا الموضع:

كقوله تعالى في الأولوَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَٱصْفَحِ ٱلصَّفْحَ ٱلْجَمِيلَ } [الحجر: 85]، وقوله تعالىوَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ } [الأحزاب: 48].

والصفح الإعراض عن المؤاخذة بالذنب.

قال بعضهم: وهو أبلغ من العفو.

قالوا: لأن الصفح أصله مشتق من صفحة العنق، فكأنه يولي المذنب بصفحة عنقه معرضاً عن عتابه فما فوقه.

وأما الأمر الثاني، فقد بين تعالى أنه هو شأن عباده الطيبين.

ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم سيدهم كما قال تعالىوَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [الفرقان: 63]، وقال تعالى:وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي ٱلْجَاهِلِينَ } [القصص: 55]. وقال عن إبراهيم إنه قال له أبوه:لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَٱهْجُرْنِي مَلِيّاً } [مريم: 46] قال لهسَلاَمٌ عَلَيْكَ } [مريم: 47].

ومعنى السلام في الآيات المذكورة، إخبارهم بسلامة الكفار من أذاهم، ومن مجازاتهم لهم بالسوء، أي سلمتم منا لا نسافهكم، ولا نعاملكم بمثل ما تعاملوننا.

وأما الأمر الثالث الذي هو تهديد الكفار بأنهم سيعلمون الحقيقة قد جاء موضحاً في آيات كتاب الله كقوله تعالى:وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ } [ص: 88] وقوله تعالى:لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [الأنعام: 67] وقوله:كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } [النبأ: 4-5]. وقوله تعالى:كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } [التكاثر: 3-4]. وقوله تعالى:لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } [التكاثر: 6-7] إلى غير ذلك من الآيات.

وكثير من أهل العلم يقول: إن قوله تعالى: { فَٱصْفَحْ عَنْهُمْ } [89] وما في معناه منسوخ بآيات السيف، وجماعات من المحققين يقولون هو ليس بمنسوخ.

والقتال في المحل الذي يجب فيه القتال، والصفح عن الجهلة، والإعراض عنهم، وصف كريم، وأدب سماوي، لا يتعارض مع ذلك، والعلم عند الله تعالى.