الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } * { بَلْ مَتَّعْتُ هَـٰؤُلاَءِ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } * { وَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ }

الضمير المنصوب في جعلها على التحقيق راجع إلى كلمة الإيمان المشتملة على معنى لا إله إلا الله، المذكورة في قولهإِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي } [الزخرف: 26-27] لأن لا إله إلا الله نفي وإثبات، فمعنى النفي منها هو البراءة من جميع المعبودات غير الله في جميع أنواع العبادات.

وهذا المعنى جاء موضحاً في قولهإِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ } [الزخرف: 26].

ومعنى الإثبات منها هو إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله.

وهذا المعنى جاء موضحاً في قوله:إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [الزخرف: 27].

وضمير الفاعل المستتر في قوله { وَجَعَلَهَا } [الزخرف: 28].

قال بعضهم: هو راجع إلى إبراهيم وهو ظاهر السياق.

وقال بعضهم: هو راجع إلى الله تعالى.

فعلى القول الأول فالمعنى صيَّر إبراهيم تلك الكلمة باقية في عقبه أي ولده وولد ولده.

وإنما جعلها إبراهيم باقية فيهم لأنه تسبب لذلك بأمرين:

أحدهما: وصيته لأولاده بذلك وصاروا يتوارثون الوصية بذلك عنه، فيوصي به السلف منهم الخلف، كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله:وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ } [البقرة: 130-132] الآية.

والأمر الثاني هو سؤاله ربه تعالى لذريته الإيمان والصلاح، كقوله تعالىوَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي } [البقرة: 124]، أي واجعل من ذريتي أيضاً أئمة، وقوله تعالى عنهرَبِّ ٱجْعَلْنِي مُقِيمَ ٱلصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَتِي } [إبراهيم: 40] وقوله عنهوَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } [إبراهيم: 35] وقوله عنه هو وإسماعيلرَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّك } [البقرة: 128] إلى قولهرَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ } [البقرة: 129].

وقد أجاب الله دعاءه في بعث الرسول المذكور ببعثه محمداً صلى الله عليه وسلم.

ولذا جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " أنا دعوة إبراهيم ".

وقد جعل الله الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته، كما قال تعالى في سورة العنكبوتوَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَاب } [العنكبوت: 27]، وقال عنه وعن نوح في سورة الحديدوَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ } [الحديد: 26] الآية.

وعلى القول الثاني، أن الضمير عائد إلى الله تعالى، فلا إشكال.

وقد بين تعالى في آية الزخرف هذه، أن الله لم يجب دعوة إبراهيم في جميع ذريته، ولم يجعل الكلمة باقية في جميع عقبه، لأن كفار مكة الذين كذبوا بنبينا صلى الله عليه وسلم من عقبه بإجماع العلماء، وقد كذبوه صلى الله عليه وسلم وقالوا إنه ساحر.

السابقالتالي
2 3 4 5 6