قوله تعالى: { ٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ وَٱلْمِيزَان }. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي أنزل الكتاب في حال كونه متلبساً بالحق الذي هو ضد الباطل، وقوله: { ٱلْكِتَاب } اسم جنس مراد به جميع الكتب السماوية. وقد أوضحنا في سورة الحج أن المفرد الذي هو اسم الجنس يطلق مراداً به الجمع، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك مع الشواهد العربية. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { وَٱلْمِيزَانَ } يعني أن الله جل وعلا هو الذي أنزل الميزان، والمراد به العدل والإنصاف. وقال بعض أهل العلم: الميزان في الآية: هو آلة الوزن المعروفة. ومما يؤيد ذلك أن الميزان مفعال، والمفعال قياسي في اسم الآلة. وعلى التفسير الأول وهو أن الميزان العدل والإنصاف، فالميزان الذي هو آلة الوزن المعروفة داخل فيه، لأن إقامة الوزن بالقسط من العدل والإنصاف. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الله تعالى هو الذي أنزل الكتاب والميزان أوضحه في غير هذا الموضع كقوله تعالى في سورة الحديد{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } [الحديد: 25]. فصرح تعالى بأنه أنزل مع رسله الكتاب والميزان لأجل أن يقوم الناس بالقسط، وهو العدل والإنصاف. وكقوله تعالى في سورة الرحمن{ وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ } [الرحمن: 7-9]. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أن الميزان في سورة الشورى وسورة الحديد هو العدل والإنصاف، كما قاله غير واحد من المفسرين. وأن الميزان في سورة الرحمن هو الميزان المعروف أعني آلة الوزن التي يوزن بها بعض المبيعات. ومما يدل على ذلك أنه في سورة الشورى وسورة الحديد عبر بإنزال الميزان لا بوضعه، وقال في سورة الشورى{ ٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ وَٱلْمِيزَان } [الشورى: 17] وقال في الحديد:{ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَان } [الحديد: 25]. وأما في سورة الرحمن فقد عبر بالوضع لا الإنزال، قال{ وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ } [الرحمن: 7] ثم أتبع ذلك بما يدل على أن المراد به آلة الوزن المعروفة، وذلك في قوله:{ وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ } [الرحمن: 9] لأن الميزان الذي نهوا عن إخساره هو أخو المكيال، كما قال تعالى{ أَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُخْسِرِينَ وَزِنُواْ بِٱلْقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ } [الشعراء: 181-183]. وقال تعالى{ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [المطففين: 1-3]. وقال تعالى عن نبيه شعيب:{ وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } [هود: 84] الآية. وقال تعالى عنه أيضاً{ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ } [الأعراف: 85] الآية. وقال تعالى في سورة الأنعام:{ وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }