الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }

قوله تعالى: { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُون }.

قوله تعالى في هذه الآية الكريمة { فَهَدَيْنَاهُمْ } المراد بالهدى فيه هدى الدلالة والبيان، والإرشاد، لا هدى التوفيق والاصطفاء.

والدليل على ذلك قوله تعالى بعده { فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } ، لأنها لو كانت هداية توفيق لما انتقل صاحبها عن الهدى إلى العمى.

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } أي اختاروا الكفر على الإيمان، وآثروه عليه، وتعوضوه منه.

وهذا المعنى الذي ذكرنا يوضحه قوله تعالى:يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوۤاْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَانِ } [التوبة: 23] فقوله في آية التوبة هذه:إِنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَانِ } [التوبة: 23] موافق في المعنى لقوله هنا: فاستحبوا العمى على الهدى.

ونظير ذلك في المعنى قوله تعالى:ٱلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا عَلَى ٱلآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [إبراهيم: 3] الآية.

فلفظة استحب في القرآن كثيراً ما تتعدى بعلى، لأنها في معنى اختار وآثر.

وقد قدمنا في سورة هود في الكلام على قوله تعالى:مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ } [هود: 24] الآية. أن العمى الكفر، وأن المراد بالأعمى في آيات عديدة الكافر.

وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن الهدى يأتي في القرآن بمعناه العام، الذي هو البيان، والدلالة، والإرشاد، لا ينافي أن الهدى قد يطلق في القرآن في بعض المواضع، على الهدى الخاص الذي هو التوفيق، والاصطفاء، كقوله تعالى:أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [الأنعام: 90]

فمن إطلاق القرآن الهدى على معناه العام قوله هنا: { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } أي بينا لهم طريق الحق وأمرناهم بسلوكها، وطرق الشر ونهيناهم عن سلوكها على لسان نبينا صالح، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام { فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } أي اختاروا الكفر على الإيمان بعد إيضاح الحق لهم.

ومن إطلاقه على معناه العام قوله تعالى:إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } [الإنسان: 3] بدليل قوله بعدهإِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [الإنسان: 3]، لأنه لو كان هدى توفيق لما قال:وَإِمَّا كَفُوراً } [الإنسان: 3].

ومن إطلاقه على معناه الخاص قوله تعالى:فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [الأنعام: 90]. وقوله تعالى:وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى } [محمد صلى الله عليه وسلم: 17]. وقوله:مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ } [الكهف: 17].

وبمعرفة هذين الإطلاقين تتيسر إزالة إشكال قرآني: هو أنه تعالى: أثبت الهدى لنبينا صلى الله عليه وسلم في آية، وهي قوله تعالى:وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الشورى: 52] ونفاه عنه في آية أخرى وهي قوله تعالى:إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص: 56].

فيعلم مما ذكرنا: أن الهدى المثبت له صلى الله عليه وسلم، هو الهدى العام الذي هو البيان، والدلالة والإرشاد، وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم فبين المحجة البيضاء، حتى تركها ليلها كنهارها لا يزيغ عنها هالك.

السابقالتالي
2 3