الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }

قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَه }.

أظهر الأقوال في الآية الكريمة، أن المراد بالقول، ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، من وحي الكتاب والسنة، ومن إطلاق القول على القرآن قوله تعالى:أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ } [المؤمنون: 68] الآية. وقوله تعالى:إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هوَ بِٱلْهَزْلِ } [الطارق: 13ـ14]. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَه } أي يقدمون الأحسن، الذي هو أشد حسناً، على الأحسن الذي هو دونه في الحسن، ويقدمون الأحسن مطلقاً على الحسن. ويدل لهذا آيات من كتاب الله.

أما الدليل على أن القرآن الأحسن المتبع. ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم من الوحي، فهو في آيات من كتاب الله كقوله تعالى:وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ } [الزمر: 55] وقوله تعالى لموسى يأمره بالأخذ بأحسن ما في التوراةفَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } [الأعراف: 145].

وأما كون القرآن فيه الأحسن والحسن، فقد دلت عليه آيات من كتابه.

واعلم أولاً أنه لا شك في أن الواجب أحسن من المندوب، وأن المندوب أحسن من مطلق الحسن، فإذا سمعوا مثلاً قوله تعالى:وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الحج: 77] قدموا فعل الخير الواجب، على فعل الخير المندوب، وقدموا هذا الأخير، على مطلق الحسن الذي هو الجائر، ولذا كان الجزاء بخصوص الأحسن الذي هو الواجب والمندوب، لا على مطلق الحسن، كما قال تعالى:وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النحل: 97] وقوله تعالىوَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِي كَـانُواْ يَعْمَلُونَ } [الزمر: 35] كما قدمنا إيضاحه في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى:مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النحل: 97]، وبينا هناك دلالة على أن المباح حسن، كما قال صاحب المراقي:
ما ربنا لم ينه عنه حسن   وغيره القبيح والمستهجن
ومن أمثلة الترغيب في الأخذ بالأحسن وأفضليته مع جواز الأخذ بالحسن قوله تعالى:وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [النحل: 126] فالأمر في قوله: { فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } للجواز، والله لا يأمر إلا بحسن. فدل ذلك على أن الانتقام حسن، ولكن الله بين أن العفو والصبر، خير منه وأحسن في قوله: { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } وأمثال ذلك كثيرة في القرآن، كقوله تعالى في إباحة الانتقام،وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } [الشورى: 41]، مع أنه بين أن الصبر والغفران خير منه، في قوله بعده:وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [الشورى: 43]، وكقوله في جواز الانتقاملاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } [النسا: 148] مع أنه أشار إلى أن العفو خير منه، و أنه من صفاته جل وعلا مع كمال قدرته وذلك في قوله بعده:

السابقالتالي
2