الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى:فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [المائدة: 54] وفي الحجر في الكلام على قوله تعالى:وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } [الحجر: 88] وقد وعدنا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى:وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [الإسراء: 23] بأنا نوضح معنى خفض الجناح، وإضافته إلى الذل في سورة الشعراء في هذا الموضع، وهذا وفاؤنا بذلك الوعد، ويكفينا في الوفاء به أن ننقل كلامنا في رسالتنا المسماة: منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز.

فقد قلنا فيها ما نصه: والجواب عن قوله تعالى:وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ } [الإسراء: 24] أن الجناح هنا مستعمل في حقيقته، لأن الجناح يطلق لغة حقيقة على يد الإنسان وعضده وإبطه. قال تعالى:وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهْبِ } [القصص: 32]، والخفض مستعمل في معناه الحقيقي، الذي هو ضد الرفع، لأن مريد البطش يرفع جناحيه، ومظهر الذل، والتواضع بخفض جناحيه، فالأمر بخفض الجناح للوالدين كناية عن لين الجانب لهما، والتواضع لهما كما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم { وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } وإطلاق العرب خفض الجناح كناية عن التواضع، ولين الجانب. أسلوب معروف ومنه قول الشاعر:
وأنت الشهير بخفض الجنا   ح فلا تك في رفعه أجدلا
وأما إضافة الجناح إلى الذل، فلا تستلزم المجاز كما يظنه كثير، لأن الإضافة فيه كالإضافة في قولك: حاتم الجود.

فيكون المعنى: واخفض لهما الجناح الذليل من الرحمة، أو الذلول على قراءة الذل بالكسر، وما يذكر عن أبي تمام من أنه لما قال:
لا تسقني ماء الملام فإنني   صب قد استعذبت ماء بكائي
جاءه رجل فقال له: صب لي في هذا الإناء شيئاً من ماء الملام، فقال له: إن أتيتني بريشة من جناح الذل صببت لك شيئاً من ماء اللمام فلا حجة فيه، لأن الآية لا يراد بها أن للذل جناحاً، وإنما يراد بها خفض الجناح المتصف بالذل للوالدين من الرحمة بهما، وغاية ما في ذلك إضافة الموصوف إلى صفته كحاتم الجود، ونظيره في القرآن الإضافة في قوله:مَطَرَ ٱلسَّوْءِ } [الفرقان: 40] وعَذَابَ ٱلْهُونِ } [الأنعام: 93] أي مطر حجارة السجيل الموصوف بسوئه من وقع عليه، وعذاب أهل النار الموصوف بهون من وقع عليه. والمسوغ لإضافة خصوص الجناح إلى الذل مع أن الذل من صفة الإنسان لا من صفة خصوص الجناح، أن خفض الجناح كنى به عن ذل الإنسان، وتواضعه ولين جانبه لوالديه رحمة بهما، وإسناد صفات الذات لبعض أجزائها من أساليب اللغة العربية كإسناد الكذب، والخطيئة إلى الناصية في قوله تعالى:نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } [العلق: 16]، وكإسناد الخشوع، والعمل والنصب إلى الوجوه في قوله تعالى:

السابقالتالي
2