الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ لِبَاساً وَٱلنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَ نُشُوراً }

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه هو الذي جعل لخلقه الليل لباساً، والنوم سباتاً، وجعل لهم النهار نشوراً، أما جعله لهم الليل لباساً، فالظاهر أنه لما جعل الليل يغطي جميع من في الأرض بظلامه، صار لباساً لهم، يسترهم كما يستر اللباس عورة صاحبه، وربما انتفعوا بلباس الليل كهروب الأسير المسلم من الكفار في ظلام الليل، واستتاره به حتى ينجو منهم، ونحو ذلك من الفوائد التي تحصل بسبب لباس الليل كما قال أبو الطيب المتنبي:
وكم لظلام الليل عندي من يد   تخبر أن المانوية تكذب
وقال ردى الأعداء تسري إليهم   وزارك فيه ذو الدلال المحجب
وأما جعله لهم النوم سباتاً فأكثر المفسرين على أن المراد بالسبات: الراحة، من تعب العمل بالنهار، لأن النوم يقطع العمل النهاري، فينقطع به التعب، وتحصل الاستراحة، كما هو معروف.

وقال الجوهري في صحاحه: السبات النوم وأصله الراحة، ومنه قوله تعالى:وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } [النبأ: 9] وقال الزمخشري في الكشاف: والسبات: الموت، والمسبوت: الميت، لأنه مقطوع الحياة وهذا، كقوله:وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِٱللَّيْلِ } [الأنعام: 60].

فإن قلت: هل لا فسرته بالراحة؟

قلت: النشور في مقابلته يأباه إباء العيوف الورد، وهو مرنق اهـ محل الغرض منه.

وإيضاح كلامه: أن النشور هو الحياة بعد الموت كما تقدم إيضاحه، وعليه فقوله: { وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَ نُشُوراً } أي حياة بعد الموت، وعليه فالموت هو المعبر عنه بالسبات في قوله: { وَٱلنَّوْمَ سُبَاتاً } وإطلاق الموت على النوم معروف في القرآن العظيم كقوله تعالى:وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِٱللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيه } [الأنعام: 60] وقوله: { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيه } فيه دليل على ما ذكره الزمخشري، لأن كلا من البعث والنشور، يطلق على الحياة بعد الموت، وكقوله تعالى:ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا وَٱلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا فَيُمْسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ وَيُرْسِلُ ٱلأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } [الزّمر: 42]، وقال الجوهري في صحاحه: والمسبوت الميت والمغشى عليه. اهـ.



والذين قالوا: إن السبات في الآية الراحة بسبب النوم من تعب العمل بالنهار، قالوا: إن معنى قوله تعالى: { وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَ نُشُوراً } أنهم ينشرون فيه لمعايشهم، ومكاسبهم، وأسبابهم، والظاهر أن هذا التفسير فيه حذف مضاف، أو هو من النعت بالمصدر، وهذا التفسير يدل عليه قوله تعالى:وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } [النبأ: 11] وقوله تعالى في القصص:وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } [القصص: 73] أي لتسكنوا في الليل، ولتبتغوا من فضله بالنهار في السعي للمعاش.

وإذا علمت هذا فاعلم أن ما دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحاً في مواضع أخر كقوله تعالى:وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا ٱللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } [النبأ: 9ـ11] وقوله تعالى:قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُون قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

السابقالتالي
2