الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

قوله تعالى في هذه الآية: يرمون معناه: يقذفون المحصنات بالزنا صريحاً أو ما يستلزم الزنا كنفي نسب ولد المحصنة عن أبيه، لأنه إن كان من غير أبيه كان من زنى، وهذا القذف هو الذي أوجب الله تعالى فيه ثلاثة أحكام:

الأول: جلد القاذف ثمانين جلدة.

والثاني: عدم قبول شهادته.

والثالث: الحكم عليه بالفسق.

فإن قيل: اين الدليل من القرآن على أن معنى يرمون المحصنات في هذه الآية: هو القذف بصريح الزنى، أو بما يستلزمه كنفي النسب.

فالجواب: أنه دلت عليه قرينتان من القرآن:

الأولى قوله تعالى: { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } بعد قوله { يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ } ومعلوم أنه ليس شيء من القذف يتوقف إثباته على أربعة شهداء إلا الزنى. ومن قال: إن اللواط حكمه حكم الزنى أجرى أحكام هذه الآية على اللائط.

وقد قدمنا أحكام اللائط مستوفاة في سورة هود، كما أشرنا له غير بعيد.

القرينة الثانية: هي ذكر المحصنات بعد ذكر الزواني في قوله تعالىٱلزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } [النور: 3] الآية. وقوله تعالى:ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } [النور: 2] فذكر المحصنات بعد ذكر الزواني، يدل على إحصانهن أي عفتهن عن الزنى، وأن الذين يرمونهن إنما يرمونهن بالزنى، وقد قدمنا جميع المعاني التي تراد بالمحصنات في القرآن، ومثلنا لها كلها من القرآن في سورة النساء في الكلام على قوله تعالىوَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } [النساء: 24] فذكرنا أن من المعاني التي تراد بالمحصنات كونهن عفائف غير زانيات، كقولهمُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } [النساء: 25] أي عفائف غير زانيات، ومن هذا المعنى قوله تعالى { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ } أي العفائف، وإطلاق المحصنات على العفائف معروف في كلام العرب. ومنه قول جرير:
فلا تأمنن الحي قيسا فإنهم   بنو محصنات لو تدنس حجورها
وإطلاق الرمي على رمي الشخص لآخر بلسانه بالكلام القبيح معروف في كلام العرب. ومنه قول عمرو بن أحمر الباهلي:
رماني بأمر كنت منه ووالدي   بريئاً ومن أجل الطوى رماني
فقوله رماني بأمر: يعني أنه رماه بالكلام القبيح، وفي شعر امرئ القيس أو غيره:
وجرح اللسان كجرح اليد   
واعلم أن هذه الآية الكريمة مبينة في الجملة من ثلاث جهات: الجهة الأولى: هي القرينتان القرآنيتان الدالتان على أن المراد بالرمي في قوله: { يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ } هو الرمي بالزنى، أو ما يستلزمه كنفي النسب، كما أوضحناه قريباً.

الجهة الثانية: هي أن عموم هذه الآية ظاهر في شموله لزوج المرأة إذا رماها بالزنى، ولكن الله جل وعلا بيّن أن زوج المرأة إذا قذفها بالزنى خارج من عموم هذه الآية، وأنه إن لم يأت بالشهداء، تلاعنا، وذلك في قوله تعالى:وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ }

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد