اعلم أن هذه الآية الكريمة أشكلت على كثير من أهل العلم، وذلك أن من أجل التعبير عن الاستئذان بالاستئناس، مع أنهما مختلفان في المادة والمعنى: وقال ابن حجر في الفتح: وحكى الحطاوي: أن الاستئناس في لغة اليمن: الاستئذان. وفي تفسير هذه الآية الكريمة بما يناسب لفظها وجهان، ولكل منهما شاهد من كتاب الله تعالى. الوجه الأول: أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو ضد الاستيحاش، لأن الذي يقرع باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أذن له استأنس وزال عنه الاستيحاش، ولما كان الاستئناس لازماً للإذن أطلق اللازم، وأريد ملزومه الذي هو الإذن، وإطلاق اللازم، وإرادة الملزوم أسلوب عربي معروف، والقائلون بالمجاز يقولون: إن ذلك من المجاز المرسل، وعلى أن هذه الآية أطلق فيها اللازم الذي هو الاستئناس وأريد ملزومه الذي هو الإذن يصير المعنى: حتى تستأذنوا، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى:{ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ } [الأحزاب: 53]، وقوله تعالى بعده:{ فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمُ } [النور: 28]، وقال الزمخشري في هذا الوجه بعد أن ذكره: وهذا من قبيل الكناية، والارداف، لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الإذن. الوجه الثاني في الآية: هو أن يكون الاستئناس بمعنى الاستعلام، والاستكشاف. فهو استفعال من آنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً أو علمه. والمعنى: حتى تستعملوا وتستكشفوا الحال، هل يؤذن لكم أو لا؟ وتقول العرب: استئنس هل ترى أحداً، واستأنست فلم أر أحداً، أي تعرفت واستعلمت، ومن هذا المعنى قوله تعالى:{ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [النساء: 6] أي علمتم رشدهم وظهر لكم. وقوله تعالى عن موسى:{ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ } [طه: 10] وقوله تعالى:{ فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَاراً } [القصص: 29] الآية فمعنى آنس ناراً: رآها مكشوفة. ومن هذا المعنى قول نابغة ذبيان:
كأن رحلي وقد زال النهار بنا
بذي الجليل على مستأنس وحد
من وحش وجرة موشى أكارعه
طاوى المصير كيف الصيقل الفرد
فقوله على مستأنس يعني: حمار وحش شبه به ناقته، ومعنى كونه مستأنساً أنه يستكشف، ويستعلم القانصين بشمه ريحهم وحدة في نظره إليهم، ومنه أيضاً قول الحارث بن حلزة اليشكري: يصف نعامة شبه بها ناقته:
آنست نبأة وأفزعها القنا
ص عصراً وقد دنا الإمساء
فقوله آنست نبأة: أي أحست بصوت خفي، وهذا الوجه الذي هو أن معنى تستأنسوا تستكشفوا وتستعلموا، هل يؤذن لكم وذلك الاستعلام والاستكشاف إنما هو يكون بالاستئذان أظهر عندي: وإن استظهر بعض أهل العلم الوجه الأول، وهناك وجه ثالث في تفسير الآية تركناه لعدم اتجاهه عندنا. وبما ذكرنا تعلم أنما يروى عن ابن عباس وغيره من أن أصل الآية: حتى تستأنسوا وأن الكاتبين غلطوا في كتابتهم، فكتبوا تستأنسوا غلطاً بدل تستأذنوا لا يعول عليه، ولا يمكن أن يصح عن ابن عباس، وإن صحح سنده عند بعض أهل العلم.