الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ }

بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه بعد إرسال نوح والرسول المذكور بعده أرسل رسله تترى: أي متواترين واحداً بعد واحداً، وكل متتابع تسميه العرب متواتراً، ومنه قول لبيد في معلقته:
يعلو طريقة متنها متواتر   في ليلة كفر النجوم غمامها
يعني: مطراً متتابعاً، أو غبار ريح متتابعاً، وتاء تترى مبدلة من الواو، وأنه كل ما أرسل رسولاً إلى أمة كذبوه فأهلكهم، وأتبع بعضهم بعضاً في الإهلاك المستأصل بسبب تكذيب الرسل. وهذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة: جاء موضحاً في آيات كثيرة. وقد بينت آية استثناء أمة واحدة من هذا الإهلاك المذكور.

أما الآيات الموضحة لما دلت عليه هذه الآية فهي كثيرة جداً كقوله تعالىوَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [سبأ: 34] وقوله تعالى:وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [الزخرف: 23] وقوله تعالى:وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا ٱلضَّرَّآءُ وَٱلسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً } [الأعراف: 94-95] الآية والآيات بمثل هذا كثيرة جداً.

أما الآية التي بينت استثناء أمة واحدة من هذه الأمم فهي قوله تعالى:فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [يونس: 98] الآية. وظاهر آية الصافات أنهم آمنوا إيماناً حقاً، وأن الله عاملهم به معاملة المؤمنين، وذلك في قوله في يونسوَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ } [الصافات: 147-148] لأن ظاهر إطلاق قوله: فآمنوا، يدل على ذلك. والعلم عند الله تعالى. ومن الأمم التي نص على أنه أهلكها وجعلها أحاديث سبأ، لأنه تعالى قال فيهم:فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [سبأ: 19] الآية وقوله { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أي أخباراً وقصصاً يسمر بها، ويتعجب منها، كما قال ابن دريد في مقصورته:
وإنما المرء حديث بعده   فكن حديثاً حسناً لمن وعى
وقرأ هذا الحرف ابن كثير، وأبو عمرو: تترا بالتنوين، وهي لغة كنانة، والباقون بألف التأنيث المقصورة من غير تنوين: وهي لغة أكثر العرب، وسهل ونافع وابن كثير وأبو عمر والهمزة الثانية من قوله: جاء أمة، وقرأها الباقون بالتحقيق، كما هو معلوم وقوله { فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } مصدر لا يظهر عامله، وقد بعد بعداً بفتحتين، وبعداً بضم فسكون: أي هلك فقوله: بعدا: أي هلاكا مستأصلاً، كما قال تعالىأَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } [هود: 95] قال الشاعر:
قل الغناء إذا لاقى الفتى تلفا   قول الأحبة لا تبعد وقد بعدا
وقد قال سيبويه: إن بعداً وسحقاً ودفراً أي نتنا من المصادر المنصوبة بأفعال لا تظهر.

السابقالتالي
2