الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّٰهُ فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَٰدِرُونَ }

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أنزله من السماء ماء معظماً نفسه جل وعلا بصيغة الجمع المراد بها التعظيم وأن ذلك الماء الذي أنزله من السماء أسكنه في الأرض لينتفع به الناس في الآبار، والعيون، ونحو ذلك. وأنه جل وعلا قادر على إذهابه لو شاء أن يذهبه فيهلك جميع الخلق بسبب ذهاب الماء من أصله جوعاً وعطشاً وبين أنه أنزله بقدر أي بمقدار معين عنده يحصل به نفع الخلق ولا يكثره عليهم، حتى يكون كطوفان نوح لئلا يهلكهم، فهو ينزله بالقدر الذي فيه المصلحة، دون المفسدة سبحانه جل وعلا ما أعظمه وما أعظم لطفه بخلقه. وهذه المسائل الثلاث التي ذكرها في هذه الآية الكريمة، جاءت مبينة في غير هذا الموضع.

الأولى: التي هي كونه: أنزله بقدر أشار إليها في قوله:وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [الحجر: 21].

والثانية: التي هي إسكانه الماء المنزل من السماء في الأرض بينها في قوله جل وعلاأَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ } [الزمر: 21] والينبوع: الماء الكثير وقوله:فَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } [الحجر: 22] على ما قدمنا في الحجر.

والثالثة: التي هي قدرته على إذهابه أشار لها في قوله تعالى:قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } [الملك: 30] ويشبه معناها قوله تعالى:لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } [الواقعة: 70] لأنه إذا صار ملحاً أجاجاً لا يمكن الشرب منه، ولا الانتفاع به صار في حكم المعدوم، وقد بين كيفية إنزاله الماء من السماء في قوله تعالى:أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } [النور: 43] فصرح بأن الودق الذي هو المطر يخرج من خلال السحاب الذي هو المزن، وهو الوعاء الذي فيه الماء وبين أن السحابة تمتلئ من الماء حتى تكون ثقيلة لكثرة ما فيها من الماء في قوله تعالى:حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ } [الأعراف: 57] الآية فقوله: ثقالاً جمع ثقيلة، وثقلها إنما هو بالماء الذي فيها وقوله تعالى:وَيُنْشِىءُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ } [الرعد: 12] جمع سحابة ثقيلة.

وهذه الآيات القرآنية تدل على أن الله يجمع الماء في المزن، ثم يخرجه من خلال السحاب، وخلال الشيء ثقوبه وفروجه التي هي غير مسدودة، وبين جل وعلا أنه هو الذي ينزله ويصرفه بين خلقه كيف يشاء، فيكثر المطر في بلاد قوم سنة، حتى يكثر فيها الخصب وتتزايد فيها النعم، ليبتلي أهلها في شكر النعمة، وهل يعتبرون بعظم الآية في إنزال الماء، ويقل المطر عليهم في بعض السنين، فتهلك مواشيهم من الجدب ولا تنبت زروعهم، ولا تثمر أشجارهم، ليبتليهم بذلك، هل يتوبون إليه، ويرجعون إلى ما يرضيه.

السابقالتالي
2