الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } * { ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ }

قال بعض أهل العلم أن الآية الأولى التي هيوَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } الحج 3 نازلة في الأتباع الجهلة الذين يجادلون بغير علم، اتباعاً لرؤسائهم، من شياطين الإنس والجن، وهذه الآية الأخيرة في الرؤساء الدعاة إلى الضلال المتبوعين في ذلك، ويدل لهذا أنه قال في الأولى { وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ } وقال في هذه { ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } فتبين بذلك أنه مضل لغيره، متبوع في الكفر والضلال، على قراءة الجمهور بضم ياء يضل. وأما على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو بفتح الياء، فليس في الآية دليل على ذلك، وقد قدمنا معنى جدال الكفرة في الله بغير علم، فأغنى عن إعادته هنا. وقال بعض العلماء في قوله في هذه الآية الكريمة { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي بدون علم ضروري، حاصل لهم بما يجادلون به { وَلاَ هُدًى } أي استدلال، ونظر عقلي، يهتدي به العقل للصواب { وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } أي وَحْي نير واضح، يعلم به ما يجادل به، فليس عنده علم ضروري ولا علم مكتسب بالنظر الصحيح العقلي، ولا علم من وَحْي، فهو جاهل محض من جميع الجهات، وقوله { ثَانِيَ عِطْفِهِ } حال من ضمير الفاعل المستكن في يجادل أي يخاصم بالباطل في حال كونه ثاني عطفه أي لاوي عنقه عن قبول الحق استكباراً وإعراضاً. فقوله ثاني اسم فاعل ثَنْى الشيء إذا لواه، وأصل العطف الجانب، وعطفا الرجل جانباه من لدن رأسه إلى وركيه، تقول العرب ثنى فلان عنك عطفه تعني أعرض عنك. وإنما عبر العلماء هنا بالعنق فقالوا ثاني عطفه لاوي عنقه مع أن العطف يشمل العنق وغيرها، لأن أول ما يظهر فيه الصدود عنق الإنسان، يلويها، ويصرف وجهه عن الشيء بليها. والمفسرون يقولون إن اللام في قوله { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } ونحوها من الآيات مما لم تظهر فيه العلة الغائية، كقولهفَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } القصص 8 الآية. ونحو ذلك لام العاقبة، والبلاغيون يزعمون أن في ذلك استعارة تبعية، في معنى الحرف. وقد وعدنا بإيضاح ذلك في سورة القصص. ونقول هنا إن الظاهر في ذلك أن الصواب فيه غير ما ذكروا، وأن اللام في الجميع لام التعليل، والمعنى واضح لا إشكال فيه كما نبه عليه الحافظ ابن كثير رحمه الله في مواضع من تفسيره. وإيضاح ذلك أن الله هو الذي قدر على الكافر في أزله أن يجادل في الله بغير علم في حال كونه لاوي عنقه إعراضاً عن الحق، واستكباراً. وقد قدر عليه ذلك ليجعله ضالاً مضلاً. وله الحكمة البالغة في ذلك، كقولهإِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } الكهف 57 أي لئلا يفقهوه.

السابقالتالي
2