قوله تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً }. هذه الآية الكريمة والآيات التي بعدها، تدل على أن جدال الكفار المذكور في قوله{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } لقمان 20 يدخل فيه جدالهم في إنكار البعث، زاعمين أنه جل وعلا لا يقدر أن يحيي العظام الرميم، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً، كما قال تعالى{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } يس 78 وكقوله تعالى عنهم{ وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } الأنعام 29{ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } الدخان 35 ونحو ذلك من الآيات كما قدمنا الإشارة إليه قريباً. ولأجل ذلك أقام تعالى البراهين العظيمة على بعث الناس من قبورهم أحياء إلى عرصات القيَامة للحساب، والجزاء فقال جل وعلا { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } فمن أوجدكم الإيجاد الأول، وخلقكم من التراب لا شك أنه قادر على إيجادكم، وخلقكم مرة ثانية، بعد أن بليت عظامكم، واختلطت بالتراب، لأن الإعادة لا يمكن أن تكون أصعب من ابتداء الفعل، وهذا البرهان القاطع على القدرة على البعث الذي هو خلقه تعالى للخلائق المرة الأولى المذكورة هنا، جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله{ وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } الروم 27 الآية وقوله{ قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } يس 79 وقوله تعالى{ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } الأنبياء 104 وقوله{ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } الإسراء 51 وقوله تعالى{ أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } ق 15 وقوله تعالى{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } الواقعة 62 وقوله{ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ } القيامة 37 إلى قوله{ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ } القيامة 40 والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً، وقد أوضحنا ذلك في مواضع متعددة من هذا الكتاب بين جل وعلا أن من أنكر البعث فهو ناس للإيجاد الأول كقوله{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ } يس 78 الآية، إذ لو تذكر الإيجاد الأول، على الحقيقة، لما أمكنه إنكار الإيجاد الثاني، وكقوله{ وَيَقُولُ ٱلإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } مريم 66-67 إذ لو تذكر ذلك تذكراً حقيقياً لما أنكر الخلق الثاني، وقوله في هذه الآية الكريمة { إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ } أي في شك من أن الله يبعث الأموات، فالريب في القرآن يراد به الشك، وقوله تعالى في هذه الآية الكرمية { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } قد قدمنا في سورة طه أن التحقيق في معنى خلقه للناس من تراب، أنه خلق أباهم آدم منها، ثم خلق منه زوجه، ثم خلقهم منهما عن طريق التناسل، كما قال تعالى