الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ }

بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أهلك كثيراً من القرى في حال كونها ظالمة: أي بسبب ذلك الظلم، وهو الكفر بالله وتكذيب رسله، فصارت بسبب الإهلاك والتدمير ديارها متهدمة وآبارها معطلة، لا يسقي منها شيء لإهلاك أهلها الذين كانوا يستقون منها. وهذا المعنى الذي ذكره تعالى في هذه الآية: جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى:وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } [الطلاق: 8-10] وقوله تعالى:وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [هود: 102] وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ صلى الله عليه وسلم { وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } " إلى غير ذلك من الآيات، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا } العروش السقوف والخاوية الساقطة ومنه قول الخنساء:
كان أبو حسان عرشاً خوى   مما بناه الدهر دان ظليل
والمعنى: أن السقوف سقطت ثم سقطت عليها حيطانها على أظهر التفسيرات، والقصر المشيد المطلي بالشيد بكسر الشين، وهو الجص، وقيل المشيد الرفيع الحصين. كقوله تعالى:أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [النساء: 78] أي حصون رفيعة منيعة. والظاهر أن قوله: { وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ } معطوف على قرية: أي وكأين من قرية أهلكناها، وكم من بئر عطلناها بإهلاك أهلها، وكم من قصر مشيد أخليناه من ساكنيه، وأهلكناهم لما كفروا وكذبوا الرسل. وفي هذه الآية وأمثالها: تهديد لكفار قريش الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم، وتحذير لهم من أن ينزل بهم ما نزل بتلك القرى من العذاب لما كذبت رسلها.

تنبيه:

يظهر لطالب العلم في هذه الآية سؤال: وهو أن قوله: { فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا } يدل على تهدم أبنية أهلها، وسقوطها وقوله: { وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } يدل على بقاء أبنيتها قائمة مشيدة.

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الظاهر لي في جواب هذا السؤال: أن قصور القرى التي أهلكها الله، وقت نزول هذه الآية منها ما هو متهدم كما دل عليه قوله: { فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا } ومنها ما هو قائم باق على بنائه، كما دل عليه قوله تعالى: { وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } وإنما استظهرنا هذا الجمع، لأن القرآن دل عليه، وخير ما يفسر به القرآن القرآن، وذلك في قوله جل وعلا في سورة هود:ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } [هود: 100] فصرح في هذه الآية بأن منها قائماً، ومنها حصيداً.

السابقالتالي
2 3 4