الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ }

قوله تعالى: { وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } [الحج: 29] صيغة الأمر في هذه الآية الكريمة: تدل على وجوب الإيفاء بالنذر، كما قدمنا مراراً أن صيغة الأمر تقتضي الوجوب، على الأصح، إلا لدليل صارف عنه.

ومما يدل من القرآن على لزوم الإيفاء بالنذر: أنه تعالى أشار إلى أنه هو، والخوف من أهوال يوم القيامة، من أسباب الشرب من الكأس الممزوجة بالكافور في قوله تعالى:إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } [الإنسان: 5-6] ثم أشار إلى بعض أسباب ذلك فقال:يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } [الإنسان: 7] فالوفاء بالنذر ممدوح على كل حال، وإن كانت آية الإنسان ليست صريحة في وجوبه، وكذلك قوله في سورة البقرة:وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُهُ } [البقرة: 270] الآية. وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن البيان بالقرآن، إن لم يكن وافياً بالمقصود أتممناه بالبيان بالسنة. ولذلك سنبين هنا ما تقتضيه السنة من النذر الذي يجب الإيفاء به، والذي لا يجب الإيفاء به.

اعلم أولاً: أن الأمر المنذور له في الجملة حالتان:

الأولى: أن يكون فيه طاعة لله.

والثانية: ألا يكون فيه طاعة لله، وهذا الأخير منقسم إلى قسمين.

أحدهما: ما هو معصية لله.

والثاني: ما ليس فيه معصية في ذاته، ولكنه ليس من جنس الطاعة كالمباح الذي لم يؤمر به.

والذي يجب اعتماده بالدليل في الأقسام الثلاثة المذكورة: أن المنذور إن كان طاعة لله، وجب الإيفاء به، سواء كان في ندب كالذي ينذر صدقة بدراهم على الفقراء، أو ينذر ذبح هدي تطوعاً أو صوم أيام تطوعاً، ونحو ذلك. فإن هذا ونحوه، يجب بالنذر، ويلزم الوفاء به. وكذلك الواجب إن تعلق النذر بوصف، كالذي ينذر أن يؤدي الصلاة في أول وقتها، فإنه يجب عليه الإيفاء بذلك.

أما لو نذر الواجب كالصلوات الخمس، وصوم رمضان، فلا أثر لنذره، لأن إيجاب الله لذلك أعظم من إيجابه بالنذر، وإن كان المنذور معصية لله: فلا يجوز الوفاء به، وإن كان جائزاً لا نهي فيه، ولا أمر فلا يلزم الوفاء به.

أما الدليل على وجوب الإيفاء في نذر الطاعة وعلى منعه في نذر المعصية فهو: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه ذلك.

قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو نعيم، حدثنا مالك، عن طلحة بن عبدالملك، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه " اهـ. وهو ظاهر في وجوب الإيفاء بنذر الطاعة، ومنع الإيفاء بنذر المعصية.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد