بين الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة سخافة عقول الذين عبدوا العجل، وكيف عبدوا ما لا يقدر على رد الجواب لمن سأله، ولا يملك نفعاً لمن عبده، ولا ضراً لمن عصاه. وهذا يدل على أن المعبود لا يمكن أن يكون عاجزاً عن النفع والضرر ورد الجواب. وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله في " الأعراف " في القصة بعينها{ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } الأعراف 148 ولا شك أن من اتخذ من لا يكلمه ولا يهديه سبيلاً إلهاً أنه من أظلم الظالمين. ونظير ذلك قوله تعالى عن إبراهيم{ يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } مريم 42، وقوله تعالى عنه أيضاً{ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ } الشعراء 72_73، وقوله تعالى{ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } الأعراف 195 وقوله تعالى{ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } الأحقاف 5-6، وقوله تعالى{ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } فاطر 13-14. وقد قدمنا الكلام مستوفى في همزة الاستفهام التي بعدها أداة عطف كالفاء والواو، كقوله هنا { أَفَلاَ يَرَوْنَ } فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقرأ هذا الحرف جماهير القراء { أَلاَّ يَرْجِعُ } بالرفع لأن " أن " مخففة من الثقيلة. والدليل على أنها مخففة من الثقيلة تصريحه تعالى بالثقيلة في قوله في المسألة بعينها في " الأعراف "{ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ } الأعراف 148 الآية، ورأى في آية " طه، والأعراف " علمية على التحقيق، لأنهم يعلمون علماً يقيناً أن ذلك العجل المصوغ من الحلي لا ينفع ولا يضر ولا يتكلم. واعلم أن المقرر في علم النحو أن " أن " لها ثلاث حالات الأولى ـ أن تكون مخففة من الثقيلة قولاً واحداً. ولا يحتمل أن تكون " أن " المصدرية الناصبة للفعل المضارع. وضابط هذه أن تكون بعد فعل العلم وما جرى مجراه من الأفعال الدالة على اليقين. كقوله تعالى{ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ } المزمل 20، وقوله{ لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ } الجن 28 الآية، ونحو ذلك من الآيات، وقول الشاعر
واعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قدرا
وقول الآخر
في فتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل ما يحفى وينتعل