الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ }

الظاهر أن الفتنة المذكورة هي عبادتهم العجل. فهي فتنة إضلال. كقولهإِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ } الأعراف 155. وهذه الفتنة بعبادة العجل جاءت مبينة في آيات متعددة. كقولهوَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } البقرة 51 ونحو ذلك من الآيات. قوله هنا { وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ } أوضح كيفية إضلاله لهم في غير هذا الموضع. كقولهوَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } ـ إلى قوله ـٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } الأعراف 148 أي اتخذوه إلهاً وقد صنعه السامري لهم من حلي القبط فأضلهم بعبادته. وقوله هنافَكَذَلِكَ أَلْقَى ٱلسَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَـٰذَآ إِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ } طه 87-88 والسامري قيل اسمه هارون، وقيل اسمه موسى بن ظفر، وعن ابن عباس أنه من قوم كانوا يعبدون البقر. وقيل كان رجلاً من القبط. وكان جاراً لموسى آمن به وخرج معه. وقيل كان عظيماً من عظماء بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة وهم معروفون بالشام. قال سعيد بن جبير كان من أهل كرمان. والفتنة أصلها في اللغة وضع الذهب في النار ليتبين أهو خالص أم زائف. وقد أطلقت في القرآن إطلاقات متعددة منها الوضع في النار، كقولهيَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } الذاريات 13 أي يحرقون بها، وقولهإِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } البروج 10 الآية. أي أحرقوهم بنار الأخدود. ومنها الاختبار وهو الأغلب في استعمال الفتنة. كقولهأَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } الأنفال 28 الآية، وقولهوَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } الجن 16-17. ومنها نتيجة الاختبار إذا كانت سيئة. ومن هنا أطلقت الفتنة على الشرك، كقولهوَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } البقرة 193، وقوله هنا { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ } الآية. ومنها الحجة، كقولهثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } الأنعام 23 أي لم تكن حجتهم. وقوله تعالى في هذه الآية { وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ } أسند إضلالهم إليه، لأنه هو الذي تسبب فيه بصياغته لهم العجل من حلي القبط ورميه عليه التراب الذي مسه حافر الفرس التي جاء عليها جبريل، فجعله الله بسبب ذلك عجلاً جسداً له خوار، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمةفَكَذَلِكَ أَلْقَى ٱلسَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } طه 87-88، وقال في " الأعراف "وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } الأعراف 148 الآية. والخوار صوت البقر. قال بعض العلماء جعل الله بقدرته ذلك الحلي المصوغ جسداً من لحم ودم، وهذا هو ظاهر قوله { عِجْلاً جَسَداً }. وقال بعض العلماء لم تكن تلك الصورة لحماً ولا دماً، ولكن إذا دخلت فيها لاريح صوتت كخوار العجل. والأول أقرب لظاهر الآية، والله تعالى قادر على أن يجعل الجماد لحماً ودماً، كما جعل آدم لحماً ودماً وكان طيناً.