قوله تعالى { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً }. قد قدمنا في سورة " الكهف " في الكلام على قوله{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا } الكهف 57 الآية ـ الآيات الموضحة نتائج الإعراض عن ذكر الله تعالى الوخيمة. فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقد قدمنا هناك أن منها المعيشة الضنك. واعلم أن الضنك في اللغة الضيق. ومنه قول عنترة
إنْ يُلْحقوا أَكْررْ وإنْ يُستلحَمُوا أَشْدُد وإن يُلْفَوْا بضَنْكٍ أنزل
وقوله أيضاً
إن المنيةَ لو تُمثَّل مُثِّلَتْ مثلى إذا نَزلُوا بضَنْك المنزلِ
وأصل الضنك مصدر وصف به، فيستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والجمع. وبه تعلم أن معنى قوله { مَعِيشَةً ضَنكاً } أي عيشاً ضيقاً والعياذ بالله تعالى. واختلف العلماء في المراد بهذا العيش الضيق على أقوال متقاربة، لا يكذب بعضها بعضاً. وقد قدمنا مراراً أن الأولى في مثل ذلك شمول الآية لجميع الأقوال المذكورة. ومن الأقوال في ذلك أن معنى ذلك أن الله عزّ وجل جعل مع الدين التسليم والقناعة، والتوكل على الله، والرضا بقسمته فصاحبه ينفق مما رزقه الله بسماح وسهولة، فيعيش عيشاً هنيئاً. ومما يدل على هذا المعنى من القرآن قوله تعالى{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } النحل 97 الآية، وقوله تعالى{ وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } هود 3 الآية، كما تقدم إيضاح ذلك كله. وأما المعرض عن الدين فإنه يستولي عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشه ضنك، وحاله مظلمة. ومن الكفرة من ضرب الله عليه الذلة والمسكنة بسبب كفره، كما قال تعالى{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } البقرة 61 الآيات. وذلك من العيش الضنك بسبب الإعراض عن ذكر الله. وبين في مواضع أخر أنهم لو تركوا الإعراض عن ذكر الله فأطاعوه تعالى ـ أن عيشهم يصير واسعاً رغداً لا ضنكاً، كقوله تعالى{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } المائدة 66 الآية، وقوله تعالى{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ آمَنُواْ وَٱتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } الأعراف 96 الآية، وكقوله تعالى عن نوح{ فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } نوح 10-12، وقوله تعالى عن هود{ وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ } هود 52 الآية، وقوله تعالى{ وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } الجن 16-17 الآية، إلى غير ذلك من الآيات.