الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً }

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنهم يسألونه عن الجبال، وأمره أن يقول لهم إن ربه ينسفها نسفاً، وذلك بأن يقلعها من أصولها، ثم يجعلها كالرمل المتهايل الذي يسيل، وكالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا. واعلم أنه جل وعلا بين الأحوال التي تصير إليها الجبال يوم القيامة في آيات من كتابه. فبين أنه ينزعها من أماكنها. ويحملها فيدكها دكاً. وذلك في قولهفَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } الحاقة 13-14. ثم بين أنه يسيرها في الهواء بين السماء والأرض. وذلك في قولهوَيَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } النمل 87-88، وقولهوَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً } الكهف 47 الآية، وقولهوَإِذَا ٱلْجِبَالُ سُيِّرَتْ } التكوير 3، وقوله تعالىوَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً } النبأ 20، وقوله تعالىيَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْراً وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً } الطور 9-10. ثم بين أنه يفتنها ويدقها كقولهوَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } الواقعة 5 أي فتت حتى صارت كالبسيسة، وهي دقيق ملتوت بسمن أو نحوه على القول بذلك، وقولهوَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } الحاقة 14. ثم بين أنه يصيرها كالرمل المتهايل، وكالعهن المنفوش؟ وذلك في قولهيَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً } المزمل 14، وقوله تعالىيَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ } المعارج 8-9 في " المعارج، والقارعة ". والعهن الصوف المصبوغ. ومنه قول زهير بن أبي سلمى في معلقته.
كأن فتات العهن في كل منزل نزلن به حب الفنا لم يحطم   
ثم بين أنها تصير كالهباء المنبث في قولهوَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } الواقعة 5-6 ثم بين أنها تصير سراباً، وذلك في قوله { وَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً } وقد بين في موضع آخر أن السراب لا شيء. وذلك قوله تعالىحَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } النور 39 وبين أنه ينسفها نسفاً في قوله هنا { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفا }. تنبيه جرت العادة في القرآن أن الله إذا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم { يَسْأَلُونَكَ } قال له { قُلْ } بغير فاء. كقولهوَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ } الإسراء 85 الآية، وقوله تعالىيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } البقرة 219 الآية، وقولهيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ } البقرة 215 الآية، وقولهيَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ } المائدة 4 الآية، وقولهيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } البقرة 217 إلى غير ذلك من الآيات، أما في آية " طه " هذه فقال فيها { فَقُلْ يَنسِفُهَا } بالفاء. وقد أجاب القرطبي رحمه الله عن هذا في تفسير هذه الآية بما نصه { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ } أي عن حال الجبال يوم القيامة، فقل. جاء هذا بفاء، وكل سؤال في القرآن " قل " بغير فاء إلا هذا. لأن المعنى إن سألوك عن الجبال فقل، فتضمن الكلام معنى الشرط، وقد علم الله أنهم يسألونه عنها فأجابهم قبل السؤال. وتلك أسئلة تقدمت، سألوا عنها النَّبي صلى الله عليه وسلم فجاء الجواب عقب السؤال. فلذلك كان بغير فاء. وهذا سؤال لم يسألوه عنه بعد فتفهمه - انتهى منه. وما ذكره يحتاج إلى دليل، والعلم عند الله تعالى.