قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون في الآية وجهان أو أوجه من التفسير كلها حق، وكل واحد منها يشهد له قرآن فإنا نذكر الجميع وأدلته من كتاب الله تعالى لأنه كله حق، فإذا علمت ذلك فاعلم - أن هذه الآية الكريمة من ذلك النوع. قال بعض أهل العلم الواو في قوله { لا يملكون } راجعة إلى { المجرمين } المذكورين في قوله{ وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ } مريم 86 أي لا يملك المجرمون الشَّفاعة، أي لا يستحقون أن يشفع فيهم شافع يخلصهم مما هم فيه من الهول والعذاب. وهذا الوجه من التفسير تشهد له آيات من كتاب الله. كقوله تعالى{ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } المدثر 48، وقوله تعالى{ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } الشعراء 100-101، وقوله تعالى{ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلأَزِفَةِ إِذِ ٱلْقُلُوبُ لَدَى ٱلْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } غافر 18 الآية. وقوله{ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } الأنبياء 28 مع قوله{ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ } الزمر 7، إلى غير ذلك من الآيات. وهذا الوجه يفهم منه بالأحرى أن المجرمين لا يشفعون في غيرهم، لأنهم إذا كانوا لا يستحقون أن يشفع فيهم غيرهم لكفرهم فشفاعتهم في غيرهم ممنوعة من باب أولى. وعلى كون الواو في { لا يملكون } راجعة إلى { المجرمين } فالاستثناء منقطع و " من " في محل نصب. والمعنى لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً يملكون الشفاعة، أي بتمليك الله إياهم وإذنه لهم فيها. فيملكون الشافعون بما ذكرنا ويستحقها به المشفوع لهم، قال تعالى{ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } البقرة 255، وقال { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } ، وقال{ وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىٰ } النجم 26. وقال بعض أهل العلم الواو في قوله { لاَّ يَمْلِكُونَ ٱلشَّفَاعَةَ } راجعة إلى " المتقين والمجرمين " جميعاً المذكورين في قوله{ يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً } مريم 85-86 وعليه فالاستثناء في قوله { إِلاَّ مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً } متصل. و { من } بدل من الواو في " لا يملكون " أي لا يملك من جميعهم أحد الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً وهم المؤمنون. والعهد العمل الصالح. والقول بأنه لا إله إلا الله وغيره من الأقوال يدخل في ذلك. أي إلا المؤمنون فإنهم يشفع بعضهم في بعض. كما قال تعالى{ يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } طه 109. وقد بين تعالى في مواضع أخر أن المعبودات التي يعبدونها من دون الله لا تملك الشفاعة، وأن من شهد بالحق يملكها بإذن الله له في ذلك، وهو قوله تعالى