اختلف العلماء في المراد بورود النار في هذه الآية الكريمة على أقوال الأول أن المراد بالورود الدُّخول، ولكن الله يصرفُ أذاها عن عباده المتقين عند ذلك الدخول. الثاني أن المراد بورود النار المذكور الجواز على الصراط، لأنه جسر منصوب على متن جهنم. الثالث أن الورود المذكور هو الإشراف عليها والقرب منها. الرابع أن حظ المؤمنين من ذلك الورود هو حر الحمى في دار الدنيا. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها الاستدلال على أحد المعاني الداخلة في معنى الآية بكونه هو الغالب في القرآن فغلبته فيه دليل استقرائي على عدم خروجه من معنى الآية. وقد قدمنا أمثلة لذلك. فإذا علمت ذلك - فاعلم أن ابن عباس رضي الله عنهما استدل على المراد بورود النار في الآية بمثل ذلك الدليل الذي ذكرنا أنه من أنواع البيان في هذا الكتاب المبارك. وإيضاحه - أن ورود النار جاء في القرآن في آيات متعددة، والمراد في كل واحدة منها الدخول. فاستدل بذلك ابن عباس على أن " الورود في الآية التي فيها النزاع هو الدخول " ، لدلالة الآيات الأخرى على ذلك، كقوله تعالى{ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ } هود 98 قال فهذا ورود دخول، وكقوله{ لَوْ كَانَ هَـٰؤُلاۤءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ } الأنبياء 99 فهو ورود دخول أيضاً، وكقوله{ وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً } مريم 86 وقوله تعالى{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } الأنبياء 98 وبهذا استدل ابن عباس على نافع بن الأزرق في " أن الورود الدخول ". واحتج من قال بأن الورود الإشراف والمقاربة بقوله تعالى{ وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ } القصص 23 الآية. قال فهذا ورود مقاربة وإشراف عليه. وكذا قوله تعالى{ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ } يوسف 19 الآية. ونظيره من كلام العرب قول زهير بن أبي سلمى في معلقته
فلما وردن الماء زرقاً جمامه وضعهن عصي الحاضر المتخيم
قالوا والعرب تقول وردت القافلة البلد وإن لم تدخله، ولكن قربت منه. واحتج من قال بأن الورود في الآية التي نحن بصددها - ليس نفس الدخول بقوله تعالى{ إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَـٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا ٱشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ } الأنبياء 101 -102 قالوا إبعادهم عنها المذكور في هذه الآية يدل على عدم دخولهم فيها فالورود غير الدخول. واحتج من قال بأن ورود النار في الآية بالنسبة للمؤمنين - حر الحمى في دار الدنيا - بحديث " الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء " وهو حديث متفق عليه من حديث عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر، وابن عمر ورافع بن خديج رضي الله عنهم.