بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن ذلك الرجل المؤمن المضروب مثلاً للمؤمنين، الذين تكبر عليهم أولو المال والجاه من الكفار، قال لصاحبه الآخر الكافر المضروب مثلاً لذوي المال والجاه من الكفار، منكراً عليه كفره - أكفرت بالذي خلقك من تراب، ثم من نطفة، ثم سواك رجلاً، لأن خلقه إياه من تراب ثم من نطفة، ثم تسويته إياه رجلاً، كل ذلك يقتضي إيمانه بخالقه الذي أبرزه من العدم إلى الوجود، وجعله بشراً سويا، ويجعله يستبعد منه كل البعد الكفر بخالقه الذي أبرزه من العدم إلى الوجود. وهذا المعنى المبين هنا بينه في مواضع أخر، كقوله تعالى{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } البقرة 28، وقوله تعالى{ وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } يس 22 وقوله تعالى{ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ ٱلأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَٱلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } الشعراء 75-81 الآية، وقوله تعالى{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } الزخرف 26-27 إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا كثيراً من الآيات الدالة على أن ضابط من يستحق العبادة وحده دون غيره - أن يكون هو الذي يخلق المخلوقات، ويظهرها من العدم إلى الوجود بما أغنى عن إعادته هنا. وقوله في هذه الآية الكريمة { بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ } معنى خلقه إياه من تراب، أي خلق آدم الذي هو أصله من التراب، كما قال تعالى{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } آل عمران 59 الآية. ونظير الآية التي نحن بصددها قوله تعالى{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } الحج 5 الآية. وقوله { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } أي بعد أن خلق آدم من التراب، وخلق حواء من ضلعه، وجعلها زوجاً له - كانت طريق إيجاد الإنسان بالتناسل. فبعد طور التراب طور النطفة، ثم طور العلقة إلى آخر أطواره المذكورة في قوله{ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } نوح 14، وقوله تعالى{ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُـمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } الزمر 6 وقد أوضحها تعالى إيضاحاً تاماً في قوله{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } المؤمنون 12-14. ومما يبين خلق الإنسان من تراب، ثم من نطفة، قوله تعالى في " السجدة "