الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } * { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً }

في قوله جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ } وجهان معروفان من التفسير الأول - أن المراد بالطائر العمل من قولهم طار له سهم إذا خرج له. اي ألزمناه ما طار له من عمله. الثاني - أن المراد بالطائر ماسبق له في علم الله من شقاوة أوسعادة. والقولان متلازمان. لأن ما يطير له من العمل هو سبب ما يؤول إليه من الشقاوة أو السعادة. فإذا عرفت الوجهين المذكورين فاعلم - أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية قد يكون فيها للعلماء قولان أو أقوال، وكلها حق، ويشهد له قرآن - فنذكر جميع الأقوال وأدلتها من القرآن. لأنها كلها حق، والوجهان المذكوران في تفسير هذه الآية الكريمة كلاهما يشهد له قرآن. أما على القول الأول بأن المراد بطائره عمله - فالآيات الدالة على أن عمل الإنسان لازم له كثيرة جداً. كقوله تعالىلَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ } النساء123 الآية، وقولهإِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } الطور16، وقوله تعالىيٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ } الانشقاق6، وقولهمَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } فصلت46، وقولهفَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } الزلزلة7و8. والآيات بمثل هذا كثيرة جداً. وأما على القول بأن المراد بطائره نصيبه الذي طار له في الأزل من الشقاوة أو السعادة - فالآيات الدالة على ذلك أيضاً كثيرة، كقولههُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } التغابن2، وقولهوَلِذٰلِكَ خَلَقَهُم } هود119 أي للاختلاف إلى شقي وسعيد خلقهم.وقولهفَرِيقاً هَدَىٰ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلاَلَةُ } الأعراف30، وقولهفَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ } الشورى7، إلى غير ذلك من الآيات. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { في عنقه } أي جعلنا عمله أو ما سبق من شقاوة في عنقه. أي لازماً له لزوم القلادة أو الغل لا ينفك عنه. ومنه قول العرب تقلدها طوق الحمامة. وقولهم الموت في الرقاب. وهذا الأمر ربقة في رقبته. ومنه قول الشاعر
اذهب بها اذهب بها طوقتها طوق الحمامه   
فالمعنى في ذلك كله اللزوم وعدم الانفكاك. وقوله جلًّ وعلا في هذه الآية الكريمة { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن ذلك العمل الذي ألزم الإنسان إياه يخرجه له يوم القيامة مكتوباً في كتاب يلقاه منشوراً، أي مفتوحاً يقرؤه هو وغيره. وبين أشياء من صفات هذا الكتاب الذي يلقاه منشوراً في آيات أخر. فبين أن من صفاته أن المجرمين مشفقون أي خائفون مما فيه، وأنه لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأنهم يجدون فيه جميع ما عملوا حاضراً ليس منه شيء غائباً، وأن الله جلَّ وعلا لا يظلمهم في الجزاء عليه شيئاً.

السابقالتالي
2 3