الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } * { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ }

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الشيطان ليس له سلطان على المؤمنين المتوكلين على الله، وأن سلطانه إنما هو على أتباعه الذين يتولَّونه، والذين هم به مشركون. وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقولهإِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ } الحجر 42، وقولهلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } ص 82-83، وقولهإِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً } الإسراء 65، وقولهوَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِٱلآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ } سبأ 21 الآية، وقولهوَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي } إبراهيم 22. واختلف العلماء في معنى السلطان في هذه الآيات. فقال أكثر أهل العلم هو الحجة، أي ليس للشيطان عليهم حجة فيما يدعوهم إليه من عبادة الأوثان. وقال بعضهم ليس له سلطان عليهم. أي تسلط وقدرة على أن يوقعهم في ذنب لا توبة منه. وقد قدمنا هذا. والمراد ب، { الَّذين يتولونه } الذين يطعيونه فيوالونه بالطاعة. وأظهر الأقوال في قوله { وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } النحل 100 أن الضمير عائد إلى الشيطان لا إلى الله. ومعنى كونهم مشركين به هو طاعتهم له في الكفر والمعاصي. كما يدل عليه قوله تعالىأَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } يس 60، وقوله عن إبراهيميٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ } مريم 44 إلى غير ذلك من الآيات. وأما سلطانه على الذين يتولونه فهو ما جعلوه له على أنفسهم من الطاعة والاتباع والموالاة، بغير موجب يستوجب ذلك. تنبيه فإن قيل أثبت الله للشيطان سلطاناً على أوليائه في آيات. كقوله هنا { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } النحل 100 الآية، وقولهإِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ } الحجر 42 فالاستثناء يدل على أن له سلطاناً على من اتبعه من الغاوين مع أنه نفى عنه السلطان عليهم في آيات أخر. كقولهوَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ } سبأ 20-21 الآية. وقوله تعالى حاكياً عنه مقرراً لهوَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي } إبراهيم 22. فالجواب هو أن السلطان الذي أثبته له عليهم غير السلطان الذي نفاه، وذلك من وجهين الأول - أن السلطان المثبت له هو سلطان إضلاله لهم بتزيينه، والسلطان المنفي هو سلطان الحجة. فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها، غير أَنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان. وإطلاق السلطان على البرهان كثير في القرآن. الثاني - أن الله لم يجعل له عليهم سلطاناً ابتداء ألبتة ولكنهم هم الذين سلَّطوه على أنفسهم بطاعاته ودخولهم في حزبه، فلم يتسلط عليهم بقوة. لأن الله يقولإِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } النساء 76. وإنما تسلط عليهم بإرادتهم واختيارهم. ذكر هذا الجواب بوجهيه العلامة ابن القيم رحمه الله. وقد بينا هذا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب.