الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ }

قوله { وَمَا } في محل نصب عطفاً على قولهوَسَخَّرَ لَكُمُ ٱللَّيْلَ وَٱلْنَّهَارَ } النحل 12 أي وسخر لكم ما ذرأ لكم في الأرض، أي ما خلق لكم فيها في حال كونه مختلفاً ألوانه. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة امتنانه على خلقه بما سخر لهم مما خلق لهم في الأرض منبهاً على أن خلقه لما خلق لهم في الأرض مع ما فيه من النعم العظام - فيه الدلالة الواضحة لمن يذكر ويتعظ على وحدانيته واستحقاقه لأن يعبد وحده. وكرر هذا المعنى في مواضع كثيرة، كقولههُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } البقرة 29 الآية، وقولهوَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } الجاثية 13 الآية. وقولهوَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَٱلنَّخْلُ ذَاتُ ٱلأَكْمَامِ وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } الرحمن 10-13، وقولههُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ } الملك 15. وأشار في هذه الآية الكريمة إلى أن اختلاف ألوان ما خلق في الأرض من الناس والدواب وغيرهما من أعظم الأدلة على أنه خالق كل شيء، وأنه الرب وحده، المستحق أن يعبد وحده. وأوضح هذا في آيات أخر. كقوله في " سورة فاطر "أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ } فاطر 27-28، وقولهوَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ } الروم 22 ولا شك أن اختلاف الألوان والمناظر والمقادير والهيئات وغير ذلك - فيه الدلالة القاطعة على أن الله جل وعلا واحد، لا شبيه له ولا نظير ولا شريك، وأنه المعبود وحده. وفيه الدلالة القاطعة على أن كل تأثير فهو بقدرة وإرادة الفاعل المختار، وأن الطبيعة لا تؤثر في شيء إلا بمشيئته جل وعلا. كما أوضح ذلك في قولهوَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } الرعد 4 فالأرض التي تنبت فيها الثمار واحدة. لأن قطعها متجاورة، والماء الذي تسقى به ماء واحد، والثمار تخرج متفاضلة، مختلفة في الألوان والأشكال والطعوم، والمقادير والمنافع. فهذا أعظم برهان قاطع على وجود فاعل مختار، يفعل ما يشاء كيف يشاء، سبحانه جل وعلا عن الشركاء والأنداد. ومن أوضح الأدلة على أن الطبيعة لا تؤثر في شيء إلا بمشيئته جل وعلا - أن النار مع شدة طبيعة الإحراق فيها ألقى فيها الحطب وإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولا شك أن الحطب أصلب وأقسى وأقوى من جلد إبراهيم ولحمه. فأحرقت الحطب بحرها. وكانت على إبراهيم برداً وسلاماً لما قال لها خالقهاقُلْنَا يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } الأنبياء 69 فسبحان من لا يقع شيء كائناً ما كان إلا بمشيئته جل وعلا، فعال لما يريد. وقوله في هذه الآية الكريمة { يذكرون } أصله يتذكرون، فأدغمت التاء في الذال. والاذكار الاعتبار والاتعاظ.