قوله تعالى { فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ }. أي فاجهر به وأظهره. من قولهم صدع بالحجة إذا تكلم بها جهاراً، كقولك صرح بها. وهذه الآية الكريمة أمر الله فيها نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أمر به علناً في غير خفاء ولا مواربة. وأوضح هذا المعنى في مواضع كثيرة، كقوله{ يَـۤأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } المائدة 67 الآية. وقد شهد له تعالى بأنه امتثل ذلك الأمر فبلغ على أكمل وجه في مواضع آخر. كقوله{ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } المائدة 3، وقوله{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ } الذاريات 54 إلى غير ذلك من الآيات. تنبيه قوله { فَٱصْدَعْ } قال بعض العلماء أصله من الصدع بمعنى الإظهار، ومنه قولهم انصدع الصبح انشق عنه الليل. والصديع الفجر لانصداعه، ومنه قول عمروبن معد يكرب
ترى السرحان مفترشاً يديه كأن بياض لبته صديع
أي فجر والمعنى على هذا القول أظهر ما تؤمر به وبلغه علناً على رؤوس الأشهاد وتقول العرب صدعت الشيء أظهرته. ومنه قول أبي ذؤيب
وكأنهن ربابة وكأنه يسر يفيض على القداح ويصدع
قاله صاحب اللسان. وقال بعض العلماء أصله من الصدع بمعنى التفريق والشق في الشيء الصلب كالزجاج والحائط. ومنه بمعنى التفريق قوله تعالى{ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } الروم 43 أي يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير. بدليل قوله تعالى{ وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } الروم 14 ومنه قول غيلان ذي الرمة
عشية قلبي في المقيم صديعه وراح جناب الظاعنين صديع
يعني أن قلبه افترق إلى جزءين جزء في المقيم، وجزء في الطاعنين. وعلى هذا القول - { فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } أي فرق بين الحق والباطل بما أمرك الله بتبليغه. وقوله { بِمَا تُؤْمَرُ } يحتمل أن تكون " ما " موصوله. ويحتمل أن تكون مصدرية، بناء على جواز سبك المصدر من أن والفعل المبني للمفعول، ومنع ذلك جماعة من علماء العربية. قال أبو حيان في البحر والصحيح أن ذلك لا يجوز. قوله تعالى { وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ }. في هذه الآية الكريمة قولان معروفان للعلماء أحدهما - أن معنى { وأعرض عن المشركين } أي لا تبال بتكذيبهم واستهزائهم، ولا يصعب عليك ذلك. فالله حافظك منهم. والآية على هذا التأويل معناها فاصدع بما تؤمر - أي بلغ رسالة ربك، وأعرض عن المشركين، أي لا تبال بهم ولا تخشهم. وهذا المعنى كقوله تعالى{ يَـۤأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } المائدة 67. الوجه الثاني - وهو الظاهر في معنى الآية - أنه كان في أول الأمر مأموراً بالإعراض عن المشركين، ثم نسخ ذلك بآيات السيف. ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى{ ٱتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ } الأنعام 106، وقوله{ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَٱنتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ } السجدة 30، وقوله{ فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } النجم 29 وقوله{ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ } الأحزاب 48 إلى غير ذلك من الآيات.