الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَـٰئِكَ هُمْ شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ }

بعد أن أنحى على أهل الكتاب والمشركين معاً ثم خَصَّ أهل الكتاب بالطعن في تعللاتهم والإِبطال لشبهاتهم التي يتابعهم المشركون عليها. أعقبه بوعيد الفريقين جمعاً بينهما كما ابتدأ الجمع بينهما في أول السورة لأن ما سبق من الموعظة والدلالة كاف في تدليل أنفسهم للموعظة. فالجملة استئناف ابتدائي، وقدم أهل الكتاب على المشركين في الوعيد استتباعاً لتقديمهم عليهم في سببه كما تقدم في أول السورة، ولأن معظم الرد كان موجهاً إلى أحوالهم من قولهوما تفرق الذين أوتوا الكتاب } البينة 4 إلى قولهدين القيمة } البينة 5، ولأنه لو آمن أهل الكتاب لقامت الحجة على أهل الشرك. و { مِن } بيانية مثل التي في قولهلم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } البينة 1. وتأكيد الخبر بــــ { إنّ } للرد على أهل الكتاب الذين يزعمون أنهم لا تمسهم النار إلا أياماً معدودة، فإن الظرفية التي اقتضتها { في } تفيد أنهم غير خارجين منها، وتأكد ذلك بقوله { خالدين فيها } ، وأما المشركون فقد أنكروا الجزاء رأساً. والإِخبارُ عنهم بالكون في نار جهنم إخبار بما يحصل في المستقبل بقرينة مقام الوعيد فإن الوعيد كالوعد يتعلق بالمستقبل وإن كان شأن الجملة الاسمية غير المقيدة بما يعين زمان وقوعها أن تفيد حصول مضمونها في الحال كما تقول زيد في نعمة. وجملة { أولئك هم شر البريئة } كالنتيجة لكونهم في نار جهنم خالدين فيها فلذلك فصلت عن الجملة التي قبلها وهو إخبار بسوء عاقبتهم في الآخرة وأريد بالبريئة هنا البريئة المشهورة في الاستعمال وهم البشر، فلا اعتبار للشياطين في هذا الاسم وهذا يشبه الاستغراق العرفي. والبريئة فعيلة من بَرأ الله الخلق، أي صورهم. ومعنى كونهم { شر البريئة } أنهم أشد الناس شراً، فــــ { شر } هنا أفعل تفضيل أصله أشر مثل خير الذي هو بمعنى أخير، فإضافة { شر } إلى { البريئة } على نية { مِن } التفضيلية. وإنما كانوا كذلك لأنهم ضلوا بعد تلبسهم بأسباب الهدى، فأما أهل الكتاب فلأن لديهم كتاباً فيه هدى ونور فعدلوا عنه، وأما المشركون فلأنهم كانوا على الحنيفية فأدخلوا فيها عبادة الأصنام ثم إنهم أصرّوا على دينهم بعدما شاهدوا من دلائل صدق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به القرآن من الإِعجاز والإِنباء بما في كتب أهل الكتاب، وذلك مما لم يشاركهم فيه غيرهم فقد اجتنوا لأنفسهم الشر من حيث كانوا أهلاً لنوال الخير فحسرتهم على أنفسهم يوم القيامة أشد من حسرة من عداهم فكان الفريقان شراً من الوثنيين والزنادقة في استحقاق العقاب لا فيما يرجى منهم من الاقتراب. وأقحم اسم الإِشارة بين اسم { إنَّ } وخبرها للتنبيه على أنهم أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإِشارة من أجل الأوصاف التي قبل اسم الإِشارة كما في قوله

السابقالتالي
2