الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلضُّحَىٰ } * { وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } * { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ }

القسم لتأكيد الخبر ردّاً على زعم المشركين أن الوحي انقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم حين رأوه لم يقم الليل بالقرآن بضع ليال. فالتأكيد منصبٌ على التعريض المعرض به لإِبطال دعوى المشركين. فالتأكيد تعريض بالمشركين وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يتردد في وقوع ما يخبره الله بوقوعه. ومناسبة القسم بــــ { الضحى والليل } أن الضحى وقتُ انبثاق نور الشمس فهو إيماء إلى تمثيل نزول الوحي وحصول الاهتداء به، وأن الليل وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن، وهو الوقت الذي كان يَسمع فيه المشركون قراءتَه من بيوتهم القريبة من بيته أو من المسجد الحرام. ولذلك قُيد { الليل } بظَرف { إذا سجى }. فلعل ذلك وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالىقم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً } المزمل2، 3. والضحى تقدم بيانه عند قوله تعالىوالشمس وضحاها } الشمس 1. وكتب في المصحف { والضحى } بألف في صورة الياء مع أن أصل ألفه الواو لأنهم راعوا المناسبة مع أكثر الكلمات المختومة بألف في هذه السورة فإن أكثرها مُنقلبَة الألِف عن الياء، ولأن الألف تجري فيها الإمالة في اللغات التي تُميل الألفَ التي من شأنها أن لا تُمال إذا وقعت مع ألفٍ تمال للمناسبة كما قال ابن مالك في «شرح كافيته». ويقال سجا الليل سَجْواً بفتح فسكون، وسُجُوا بضمتين وتشديد الواو، إذا امتد وطال مدة ظلامه مثل سجو المرء بالغطاء، إذا غطي به جميع جسده وهو واوي ورسم في المصحف بألف في صورة الياء للوجه المتقدم في كتابة { الضحى }. وجملة { ما ودّعك ربك } الخ جواب القسم، وجواب القسم إذا كان جملة منفية لم تقترن باللام. والتوديع تحيةُ من يريد السفر. واستعير في الآية للمفارقة بعد الاتصال تشبيهاً بفراق المسافر في انقطاع الصلة حيث شبه انقطاع صلة الكلام بانقطاع صلة الإقامة، والقرينة إسناد ذلك إلى الله الذي لا يتصل بالناس اتصالاً معهوداً. وهذا نفي لأن يكون الله قطع عنه الوحي. وقد عطف عليه { ومَا قلى } للإِتيان على إبطال مقالتي المشركين إذ قال بعضهم ودَّعه ربه، وقال بعضهم قَلاه ربه، يريدون التهكم. وجملة { وما قلى } عطف على جملة جواب القسم ولها حكمها. والقليْ بفتح القاف مع سكون اللام والقِلَى بكسر القاف مع فتح اللام البغض الشديد، وسبب مقالة المشركين تقدم في صدر السورة. والظاهر أن هذه السورة نزلت عقب فترة ثانية فتر فيها الوحي بعد الفترة التي نزلت إثرها سورة المدثر، فعن ابن عباس وابن جريج «احتبس الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوماً أو نحوها. فقال المشركون إن محمداً ودَّعه ربه وقلاه، فنزلت الآية».

السابقالتالي
2