الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ } * { لاَ يَصْلَٰهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى } * { ٱلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } * { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى } * { ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ } * { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ } * { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ } * { وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ }

يجوز أن تكون الفاء لمجرد التفريع الذِكري إذا كان فعل «أنذرتكم» مستعملاً في ماضيه حقيقةً وكان المراد الإِنذار الذي اشتمل عليه قولهوأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } الليل 8 ـــ 10 إلى قولهتردى } الليل 11. وهذه الفاء يشبه معناها معنى فاء الفصيحة لأنها تدلّ على مراعاة مضمون الكلام الذي قبلها وهو تفريع إنذارٍ مفصَّلٍ على إنذارٍ مجمل. ويجوز أن تكون الفاء للتفريع المعنوي فيكون فعلُ «أنذرتكم» مراداً به الحال وإنما صيغ في صيغة المضي لتقريب زمان الماضي من الحال كما في قد قَامت الصلاة، وقولهم عزمت عليك إلاّ ما فعلت كذا، أي أعزم عليك، ومثل ما في صيغ العقود كبعتُ، وهو تفريع على جملةإن علينا للهدى } الليل 12 والمعنى هديكم فأنذرتكم إبلاغاً في الهدى. وتنكير { ناراً } للتهويل، وجملة { تلظّى } نعت. وتلظى تلتهب من شدة الاشتعال. وهو مشتق من اللّظى مصدر لَظَيَتْ النار كرَضيتْ إذا التهبت، وأصل { تلظى } تتلظى بتاءين حذفت إحداهما للاختصار. وجملة { لا يصلاها إلا الأشقى } صفة ثانية أو حال من { ناراً } بعد أن وصفت. وهذه نار خاصة أعدت للكافرين فهي التي في قولهفاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين } البقرة 24 والقرينة على ذلك قوله { وسيجنبها الأتقى } الآية. وذكر القرطبي أن أبا إسحاق الزجاج قال هذه الآية التي من أجلها قال أهلُ الإِرجاء بالإِرجاء فزعموا أن لا يدخل النار إلا كافر، وليس الأمر كما ظنوا هذه نار موصوفة بعينها لا يصلى هذه النار إلا الذي كذب وتولى، ولأهل النار منازل فمنها أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار اهــــ. والمعنى لا يصلاها إلا أنتم. وقد أتبع { الأشقى } بصفة { الذي كذب وتولى } لزيادة التنصيص على أنهم المقصود بذلك فإنهم يعلمون أنهم كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وتولوا، أي أعرضوا عن القرآن، وقد انحصر ذلك الوصف فيهم يومئذ فقد كان الناس في زمن ظهور الإسلام أحد فريقين إما كافر وإما مؤمن تقي، ولم يكن الذين أسلموا يغشون الكبائر لأنهم أقبلوا على الإِسلام بشراشرهم، ولذلك عطف { وسيجنبها الأتقى } الخ تصريحاً بمفهوم القصر وتكميلاً للمقابلة. و { الأشقى } و { الأتقى } مراد بهما الشديد الشقاء والشديد التقوى ومثله كثير في الكلام. وذكر القرطبي أن مالكاً قال صلّى بنا عمر بن عبد العزيز المغرب فقرأ { والليل إذا يغشى } فلما بلغ { فأنذرتكم ناراً تلظىٰ } وقع عليه البكاء فلم يقدر يتعدّاها من البكاء فتركها وقرأ سورة أخرى». ووصف { الأشقى } بصلة { الذي كذب وتولى } ، ووصف { الأتقى } بصلة { الذي يؤتى ماله يتزكى } للإِيذان بأن للصلة تسبباً في الحكم. وبين { الأشقى } و { الأتقى } محسن الجناس المضارع. وجملة { يتزكى } حال في ضمير { يؤتي } ، وفائدة الحال التنبيه على أنه يؤتي ماله لقصد النفع والزيادة من الثواب تعريضاً بالمشركين الذي يؤتون المال للفخر والرياء والمفاسد والفجور.

السابقالتالي
2