الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ } * { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ } * { فَكُّ رَقَبَةٍ } * { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ } * { يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ } * { أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } * { ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْمَرْحَمَةِ }

يجوز أن يكون { فلا اقتحم العقبة } تفريع إدماج بمناسبة قولهوهديناه النجدين } البلد 10 أي هديناه الطريقين فلمْ يسلك النجْد الموصِّل إلى الخير. ويجوز أن يكون تفريعاً على جملةيقول أهلكت مالاً لُبَداً } البلد 6 وما بينهما اعتراضاً، وتكون «لا اقتحم العقبة» استفهاماً حذف منه أداته. وهو استفهام إنكار، والمعنى أنه يدعي إهلاك مَال كثيرٍ في الفساد من ميسر وخمر ونحو ذلك أفَلا أهلكه في القُرَب والفضائل بفكّ الرقاب وإطعام المساكين في زمن المجاعة فإن الإِنفاق في ذلك لا يخفى على الناس خلافاً لما يدعيه من إنفاقٍ. وعلى هذا الوجه لا يعرِض الإِشكال بعدم تكرُّر لا فإن شأن لا النافية إذا دخلت على فعل المضي ولم تتكرر أن تكون للدّعاء إلاّ إذا تكررت معها مثلُها معطوفةٌ عليها نحو قولهفلاَ صَدَّق ولا صلَّى } القيامة 31 أو كانت لا معطوفة على نفي نحو ما خرجتُ ولا ركبتُ. فهو في حكم تكرير لا. وقد جاءت هنا نافية في غير دعاء، ولم تتكرر استغناء عن تكريرها بكون ما بعدها وهو { اقتَحَم العقبة } يتضمن شيئين جاء بيانهما في قوله { فكُّ رقبة أو إطعام } فكأنه قال فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعم يتيماً أو مسكيناً. ويجوز أن يكون عدم تكرير لا هنا استغناء بقوله { ثم كان من الذين آمنوا } فكأنه قيل فلا اقتحم العقبة ولا آمن. ويظهر أن كل ما يصرف عن التباس الكلام كافٍ عن تكرير لا كالاستثناء في قول الحريري في «المقامة الثلاثين» «لا عقد هذا العقد المبجل في هذا اليوم الأغر المحجّل إلا الذي جال وجاب» الخ وأُطلق { العقبةُ } على العمل الموصل للخير لأن عقبة النجد أعلى موضع فيه. ولكل نجد عقبة ينتهي بها. وفي العقبات تظهر مقدرة السابرة. والاقتحام الدخول العسير في مكان أو جماعة كثيرين يقال اقتحم الصَفَّ، وهو افتعال للدلالة على التكلف مثل اكتسب، فشبه تكلف الأعمال الصالحة باقتحام العقبة في شدته على النفس ومشقته قال تعالىوما يُلَقَّاها إلا الذين صبروا } فصلت 35. والاقتحام ترشيح لاستعارة العقبة لِطريق الخير، وهو مع ذلك استعارة لأن تزاحم الناس إنما يكون في طلب المنافع كما قال
والمورد العذب كثير الزحام   
وأفاد نفي الاقتحام أنه عدل على الاهتداء إيثاراً للعاجل على الآجل ولو عزم وصَبر لاقْتحم العقبة. وقد تتابعت الاستعارات الثلاث النجدين، والعقبة، والاقتحام، وبُني بعضها على بعض وذلك من أحسن الاستعارة وهي مبنية على تشبيه المعقول بالمحسوس. والكلام مسوق مساق التوبيخ على عدم اهتداء هؤلاء للأعمال الصالحة مع قيام أسباب الاهتداء من الإِدراك والنطق. وقوله { وما أدراك ما العقبة } حال من العقبة في قوله { فلا اقتحم العقبة } للتنويه بها وأنها لأهميتها يَسأل عنها المخاطب هل أعلَمَهُ مُعْلِم ما هي، أي لم يقتحم العقبة في حال جَدارتها بأن تُقتحم.

السابقالتالي
2 3 4 5