الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

عطف ذكر فيه خلق آخر من أخلاق المنافقين وهو تعلّلهم على ما يعاملهم به النبي والمسلمون من الحَذر، وما يطَّلعون عليه من فلتات نفاقهم، يزعمون أن ذلك إرجاف من المرجفين بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنّه يُصدّق القالَة فيهم، ويتّهمهم بما يبلغه عنهم ممّا هم منه برآء يعتذرون بذلك للمسلمين، وفيه زيادة في الأذى للرسول صلى الله عليه وسلم وإلقاء الشكّ في نفوس المسلمين في كمالات نبيئهم عليه الصلاة والسلام. والتعبير بالنبي إظهار في مقام الإضمار لأنّ قبلهومنهم من يلمزك في الصدقات } التوبة 58 فكان مقتضى الظاهر أن يقال «ومنهم الذين يؤذونك» فعُدل عن الإضمار إلى إظهار وصف النبي للإيذان بشناعة قولهم ولزيادة تنزيه النبي بالثناء عليه بوصف النبوة بحيث لا تحكى مقالتهم فيه إلاّ بعد تقديم ما يشير إلى تنزيهه والتعريض بجرمهم فيما قالوه. وهؤلاء فريق كانوا يقولون في حق النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤذيه إذا بلغه. وقد عُدّ من هؤلاء المنافقين، القائلين ذلك الجُلاَسُ بن سُويد، قبل توبته، ونَبْتَل بن الحارث، وعتاب بن قشير، ووديعة بن ثابت. فمنهم من قال إن كان ما يقول محمّد حقّاً فنحن شرّ من الحمير، وقال بعضهم نقول فيه ما شئنا ثم نذهب إليه ونحلف له أنّا ما قلنا فيقبل قولنا. والأذَى الإضرار الخفيف، وأكثر ما يطلق على الضرّ بالقول والدسائس، ومنه قوله تعالىلن يضرّوكم إلا أذى } وقد تقدّم في سورة آل عمران 111، وعند قوله تعالىوأوذوا حتى أتاهم نصرنا } في سورة الأنعام 34. ومضمون جملة ويقولون هو أذن } عطفُ خاصّ على عامّ، لأنّ قولهم ذلك هو من الأذى. والأذن الجارحة التي بها حاسّة السمع. ومعنى { هو أذن } الإخبار عنه بأنّه آلة سمع. والإخبار بــــ { هو أذن } من صيغ التشبيه البليغ، أي كالأذن في تلقّي المسموعات لا يردّ منها شيئاً، وهو كناية عن تصديقه بكلّ ما يسمع من دون تمييز بين المقبول والمردود. روي أنّ قائل هذا هو نَبْتَل ابن الحارث أحد المنافقين. وجملة { قل أذن خير لكم } جملة { قل } مستأنفة استينافاً ابتدائياً، على طريقة المقاولة والمحاورة، لإبطال قولهم بقلب مقصدهم إغاظةً لهم، وكمداً لمقاصدهم، وهو من الأسلوب الحكيم الذي يَحمِل فيه المخاطَبُ كلامَ المتكلّم على غير ما يريده، تنبيهاً له على أنّه الأولى بأن يراد، وقد مضى عند قوله تعالىيسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } البقرة 189 ومنه ما جَرَى بين الحجّاج والقبعثرَى إذ قال له الحجاج متوعّدا إيّاه «لأحْمِلَنَّك على الأدهْم أراد لألْزِمنَّك القَيْد لا تفارقه فقال القبعثري «مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب» فصرف مراده إلى أنّه أراد بالحمل معنى الركوب وإلى إرادة الفَرس الذي هو أدهم اللون من كلمة الأدهم.

السابقالتالي
2 3