الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ }

هذا ابتداء خطاب للمؤمنين للتحريض على الجهاد في سبيل الله، بطريقة العتاب على التباطىء بإجابة دعوة النفير إلى الجهاد، والمقصود بذلك غزوة تبوك. قال ابن عطية «لا اختلاف بين العلماء في أنّ هذه الآية نزلت عتاباً على تخلّف مَن تخلّف عن غزوة تبوك، إذ تخلّف عنها قبائل ورجال من المؤمنين والمنافقون» فالكلام متّصل بقولهوقاتلوا المشركين كافة } التوبة 36 ــــ وبقوله ــــقاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } التوبة 29 إلى قولهفذوقوا ما كنتم تكنزون } التوبة 35 كما أشرنا إليه في تفسير تلك الآيات. وهو خطاب للذين حصل منهم التثاقل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر المسلمين إلى تلك الغزوة، وكان ذلك في وقت حرّ شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، حين نضجت الثمار، وطابت الظلال، وكان المسلمون يومئذٍ في شدّة حاجة إلى الظهر والعُدّة. فلذلك سُمّيت غزوة العُسرة كما سيأتي في هذه السورة، فجلى رسولُ الله للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة عدوّهم، وأخبرهم بوجههِ الذي يريد، وكان قبل ذلك لا يريد غزوة إلاّ وَرَّى بما يوهم مكاناً غير المكان المقصود، فحصل لبعض المسلمين تثاقل، ومن بعضهم تخلّف، فوجه الله إليهم هذا الملام المعقّب بالوعيد. فإنّ نحن جرَينا على أنّ نزول السورة كان دفعة واحدة، وأنّه بعد غزوة تبوك، كما هو الأرجح، وهو قول جمهور المفسّرين، كان محمل هذه الآية أنّها عتاب على ما مضى وكانت { إذا } مستعملة ظرفاً للماضي، على خلاف غالب استعمالها، كقوله تعالىوإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } الجمعة 11 وقولهولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد } التوبة 92 الآية، فإنّ قولهوما لكم لا تقاتلون في سبيل الله } النساء 75 صالح لإفادَة ذلك، وتحذيرٌ من العودة إليه، لأنّ قوله { إلاَّ تنفروا } و { إلاّ تنصروه } و { انفروا خفافاً } مراد به ما يستقبل حين يُدعَون إلى غزوة أخرى، وسنبيّن ذلك مفصّلاً في مواضعه من الآيات. وإن جرينا على ما عَزاه ابن عطية إلى النقاش أنّ قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } هي أول آية نزلت من سورة براءة، كانت الآية عتاباً على تكاسلٍ وتثاقلٍ ظهرا على بعض الناس، فكانت { إذا } ظرفاً للمستقبل، على ما هو الغالب فيها، وكان قولهإلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً } التوبة 39 تحذيراً من ترك الخروج إلى غزوة تبوك، وهذا كلّه بعيد ممّا ثبت في «السيرة» وما ترجّح في نزول هذه السورة. و { مَا } في قوله و { ما لكم } اسم استفهام إنكاري، والمعنى أي شيء، و { لكم } خبر عن الاستفهام أي أي شيء ثَبت لكم. و { إذا } ظرف تعلّق بمعنى الاستفهام الإنكاري على معنى أنّ الإنكار حاصل في ذلك الزمان الذي قيل لهم فيه انفروا، وليس مضمّناً معنى الشرط لأنّه ظرفُ مُضيّ.

السابقالتالي
2