الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ }

لما تضمّنت الآيات السابقة الحث على قتال المشركين ابتداء من قوله تعالىفاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } التوبة 5، وكان التمهيد للإقدام على ذلك مدرَّجا بإبطال حرمة عهدهم، لشركهم، وبإظهار أنّهم مضمرون العزم على الابتداء بنقض العهود التي بينهم وبين المسلمين لو قُدّر لهم النصر على المسلمين وآية ذلك اعتداؤهم على خزاعة أحلاف المسلمين، وهمُّهم بإخراج الرسول ـــ عليه الصلاة والسلام ـــ من مكة بعد الفتح، حتى إذا انتهى ذلك التمهيد المدرج إلى الحثّ على قتالهم وضمان نصر الله المسلمين عليهم، وما اتّصل بذلك ممّا يثير حماسة المسلمين جاء في هذه الآية بشواهد ما سبق من نصر الله المسلمين في مواطن كثيرة، وتذكير بمقارنة التأييد الإلٰهي لحالة الامتثال لأوامره، وإنّ في غزوة حنين شواهد تشهد للحالين. فالكلام استيناف ابتدائي لمناسبة الغرض السابق. وأسند النصر إلى الله بالصراحة لإظهار أنّ إيثار محبّة الله وإن كان يُفيت بعض حظوظ الدنيا، ففيه حظ الآخرة وفيه حظوظ أخرى من الدنيا وهي حظوظ النصر بما فيه من تأييد الجامعة، ومن المغانم، وحماية الأمة من اعتداء أعدائها، وذلك من فضل الله إذ آثروا محبّته على محبّة علائقهم الدنيوية. وأكّد الكلام بــــ { قد } لتحقيق هذا النصر لأنّ القوم كأنّهم نسوه أو شكّوا فيه فنزلوا منزلة من يحتاج إلى تأكيد الخبر. و { مواطن } جمع مَوْطِن، والموطن أصله مكان التوطّن، أي الإقامة. ويطلق على مقام الحرب وموقفها، أي نصركم في مواقع حروب كثيرة. و { يومَ } معطوف على الجار والمجرور من قوله { في مواطن } فهو متعلّق بما تعلّق به المعطوف عليه وهو { نَصَركم } والتقدير ونَصَركم يومَ حنين وهو من جملة المواطن، لأنّ مواطن الحرب تقتضي أياماً تقع فيها الحرب، فتدلّ المواطن على الأيام كما تدلّ الأيام على المواطن، فلمّا أضيف اليوم إلى اسم مكانٍ علم أنّه موطِن من مواطن النصر ولذلك عطف بالواو لأنّه لو لم يعطف لتوهّم أنّ المواطن كلّها في يوم حنين، وليس هذا المراد. ولهذا فالتقدير في مواطن كثيرة وأيامٍ كثيرة منها موطن حنين ويومُ حنين. وتخصيص يوم حنين بالذكر من بين أيام الحروب لأنّ المسلمين انهزموا في أثناء النصر ثم عادَ إليهم النصر، فتخصيصه بالذكر لما فيه من العبرة بحصول النصر عند امتثال أمر الله ورسوله ـــ عليه الصلاة والسلام ـــ وحصول الهزيمة عند إيثار الحظوظ العاجلة على الامتثال، ففيه مثَل وشاهد لحالتي الإيثارين المذكورين آنفاً في قوله تعالىأحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله } التوبة 24 ليتنبّهوا إلى أنّ هذا الإيثار قد يعرض في أثناء إيثار آخر، فهم لَمَّا خرجوا إلى غزوة حنين كانوا قد آثروا محبّة الجهاد على محبّة أسبابهم وعلاقاتهم، ثم هم في أثناء الجهاد قد عاودهم إيثار الحظوظ العاجلة على امتثال أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو من آثار إيثار محبّتها، وهي عبرة دقيقة حصل فيها الضّدان ولذلك كان موقع قوله { إذ أعجبتكم كثرتكم } بديعاً لأنّه تنبيه على خطئِهم في الأدب مع الله المناسب لِمقامهم أي ما كان ينبغي لكم أن تعتمدوا على كثرتكم.

السابقالتالي
2 3