الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ }

استئناف ابتدائي لإيجاب الغزو على أهل المدينة ومن حولهم من أهل باديتها الحافّين بالمدينة إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم للغزو. فهذا وجوب عيني على هؤلاء شرفهم الله بأن جعلهم جند النبي صلى الله عليه وسلم وحَرَس ذاته. والذين هم حول المدينة من الأعراب هم مُزينة، وأشجع، وغِفار، وجُهينة، وأسلم. وصيغة { ما كان لأهل المدينة } خبر مستعمل في إنشاء الأمر على طريق المبالغة، إذ جعل التخلف ليس مما ثبت لهم، فهم برآء منه فيثبت لهم ضده وهو الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا. فيه ثناء على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب لما قاموا به من غزو تبوك، فهو يقتضي تحريضهم على ذلك كما دل عليه قوله { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ } الخ. وفيه تعريض بالذين تخلفوا من أهل المدينة ومن الأعراب. وذلك يدل على إيجاب النفير عليهم إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم للغزو. وقال قتادة وجماعة هذا الحكم خاص بخروج النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من الخلفاء والأمراء فهو مُحكم غير منسوخ. وبذلك جزم ابن بَطال من المالكية. قال زيد بن أسلم وجابر بن زيد كان هذا حكماً عاماً في قلة الإسلام واحتياجه إلى كثرة الغزاة ثم نسخ لما قوي الإسلام بقوله تعالىوما كان المؤمنون لينفروا كافة } التوبة 122 فصار وجوب الجهاد على الكفاية. وقال ابن عطية هذا حكم من استنفرهم الإمام بالتعيين لأنه لو جاز لهؤلاء التخلف لتعطل الخُروج. واختاره فخر الدين. والتخلف البقاء في المكان بعدَ الغير ممن كان معه فيه، وقد تقدم عند قولهفرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله } التوبة 81. والرغبة تُعدّى بحرف في فتفيد معنى مودة تحصيل الشيء والحرص فيه، وتُعدى بحرف عن فتفيد معنى المجافاة للشيء، كما تقدم في قوله تعالىومن يرغب عن ملة إبراهيم } البقرة 130 وهي هنا معداة بـــ عن. أريد برغبتهم عن نفسه محبتهم أنفسهم وحرصهم على سلامتها دون الحرص على سلامة نفس الرسول، فكأنهم رغبوا عن نفسه إذ لم يخرجوا معه مُلاَبسين لأنفسهم، أي محتفظين بها لأنهم بمقدار من يتخلف منهم يزداد تعرض نفس الرسول من التلف قرباً، فتخلف واحد منهم عن الخروج معه عون على تقريب نفس الرسول عليه الصلاة والسلام من التلف فلذلك استعير لهذا التخلف لفظ الرغبة عنه. والباء في قوله { بأنفسهم } للملابسة وهي في موضع الحال. نزل الضن بالأنفس والحذر من هلاكها بالتلبس بها في شدة التمكن فاستعمل له حرف باء الملابسة. وهذه ملابسة خاصة وإن كانت النفوس في كل حال متلبساً بها. وهذا تركيب بديع الإيجاز بالغ الإعجاز. قال في «الكشاف» «أمروا أن يُلَقُّوا أنفسَهم من الشدائد ما تلقاه نفسه علماً بأنها أعَز نفس عند الله وأكرمها عليه فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهول وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له» اهـــ.

السابقالتالي
2