الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوۤاْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ }

لمّا استوفى البيان لأصناف المشركين الذين أمر الله بالبراءة من عهدهم بقولهأن الله بريء من المشركين } التوبة 3 إلى قولهوبشر الذين كفروا بعذاب أليم } التوبة 3 وإنّما كان ذلك لإبطانهم الغدر، والذين أمر بإتمام عهدهم إلى مدّتهم ما استقاموا على العهد بقولهإلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم } التوبة 4 الآيات، والذين يستجيبون عَطَف على أولئك بيان الذين يعلنون بنكث العهد، ويعلنون بما يسخطُ المسلمين من قولهم، وهذا حال مضادّ لحال قولهوإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم } التوبة 8. والنكث تقدّم عند قوله تعالىفلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون } في الأعراف 135. وعبَر عن نقض العهد بنكث الأيمان تشنيعاً للنكث، لأنّ العهد كان يقارنه اليمين على الوفاء ولذلك سمّي العهد حلفا. وزيد قوله { من بعد عهدهم } زيادة في تسجيل شناعة نكثهم بتذكير أنّه غدْر لعهد، وحنث باليمين. والطعن حقيقته خرق الجسم بشيء محددٍ كالرمح، ويستعمل مجازاً بمعنى الثلب. والنسبة إلى النقص، بتشبيه عِرض المرء، الذي كان ملتئما غير منقوص، بالجسد السليم. فإذا أظهرت نقائصه بالثلب والشتم شُبّه بالجِلد الذي أفسِد التحامُه. والأمر، هنا للوجوب، وهي حالة من أحوال الإذن المتقدّم في قوله تعالىفإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } التوبة 5 ففي هذه الحالة يجب قتالهم ذبّاً عن حرمة الدين، وقمعا لشرّهم من قبل أن يتمرّدوا عليه. و { أئِمّة } جمع إمام، وهو ما يجعل قدوة في عمل يُعمل على مثاله، أو على مثال عمله، قال تعالىونجعلهم أئمة } القصص 5 أي مقتدى بهم، وقال لبيد
ولكلّ قوم سنة وإمامها   
والإمام المثال الذي يصنع على شكله، أو قدره، مصنوع، فأئمّة الكفر، هنا الذين بلغوا الغاية فيه، بحيث صاروا قدوة لأهل الكفر. والمراد بأئِمّة الكفر المشركون الذين نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، فوضع هذا الاسم موضع الضمير حين لم يُقل فقاتلوهم، لزيادة التشنيع عليهم ببلوغهم هذه المنزلة من الكفر، وهي أنّهم قدوة لغيرهم، لأنّ الذين أضمروا النكث يبقون متردّدين بإظهاره، فإذا ابتدأ بعضهم بإظهار النقض اقتدى بهم الباقون، فكان الناقضون أئِمّة للباقين. وجملة { إنهم لا أيمان لهم } تعليل لقتالهم بأنّهم استحقّوه لأجل استخفافهم بالأيمان التي حلفوها على السلم، فغدروا، وفيه بيان للمسلمين كيلا يشرعوا في قتالهم غير مطّلعين على حكمة الأمر به، فيكون قتالهم لمجرّد الامتثال لأمر الله، فلا يكونُ لهم من الغيظ على المشركين ما يشحّذ شدّتهم عليهم. ونفي الأيمان لَهم نفي للماهية الحقّ لليمين، وهي قصد تعظيمه والوفاء به، فلمّا لم يوفوا بأيمانهم، نزلت أيمانهم منزلة العدم لفقدان أخصّ أخواصّها وهو العمل بما اقتضته. وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ورويس عن يعقوب.

السابقالتالي
2