الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }

انتقال من التحريض على الجهاد والتحذير من التقاعس والتوبيخ على التخلف، وما طرأ على ذلك التحريض من بيان أحوال الناس تُجاه ذلك التحريض وما عقبه من أعمال المنافقين والضعفاء والجبناء إلى بيان فضيلة الذين انتدبوا للغزو واقتحموا شدائده، فالجملة استئناف ابتدائي. وافتتاحها بحرف التحقيق تأكيد لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالاً ماضية. ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضى الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك. وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في تعلق فعل التوبة بالغُزاة للتنويه بشأن هذه التوبة وإتيانها على جميع الذنوب إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر. ومعنى { تاب } عليه غفر له، أي لم يؤاخذه بالذنوب سواء كان مذنباً أم لم يكنه، كقوله تعالىعلم أنْ لن تحصوه فتاب عليكم } المزمل 20 أي فغفر لكم وتجاوز عن تقصيركم وليس هنالك ذنب ولا توبة. فمعنى التوبة على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه أن الله لا يؤاخذهم بما قد يحسبون أنه يسبب مؤاخذة كقول النبي صلى الله عليه وسلم " لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " وأما توبة الله على الثلاثة الذين خُلفوا فهي استجابته لتوبتهم من ذنبهم. والمهاجرون والأنصار هم مجموع أهل المدينة، وكان جيش العسرة منهم ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة، ولكنهم خُصوا بالثناء لأنهم لم يترددوا ولم يتثاقلوا ولا شحوا بأموالهم، فكانوا إسوة لمن اتَّسى بهم من غيرهم من القبائل. ووصف المهاجرون والأنصار بـــ { الذين اتبعوه } للإيماء إلى أن لصلة الموصول تسبباً في هذه المغفرة. ومعنى { اتبعوه } أطاعوه ولم يخالفوا عليه، فالاتباع مجازي. والساعة الحصة من الزمن. والعسرة اسم العسر، زيدت فيه التاء للمبالغة وهي الشدة. وساعة العسرة هي زمن استنفار النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى غزوة تبوك. فهو الذي تقدمت الإشارة إليه بقولهيا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } التوبة 38 فالذين انتدبوا وتأهبوا وخرجوا هم الذين اتبعوه، فأما ما بعد الخروج إلى الغزو فذلك ليس هو الاتباع ولكنه الجهاد. ويدل لذلك قوله { من بعد ما كاد تزيغ قلوب فريق منهم } أي من المهاجرين والأنصار، فإنه متعلق بـــ { اتبعوه } أي اتبعوا أمره بعد أن خامر فريقاً منهم خاطر التثاقل والقعود والمعصية بحيث يشبهون المنافقين، فإن ذلك لا يتصور وقوعه بعد الخروج، وهذا الزيغ لم يقع ولكنه قارب الوقوع. و { كاد } من أفعال المقاربة تعمل في اسمين عَملَ كانَ، واسمُها هنا ضمير شأن مقدر، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن، وإنما جُعل اسمها هنا ضمير شأن لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ.

السابقالتالي
2